ففيهما فجاهد!

الرئيسية » خواطر تربوية » ففيهما فجاهد!
old hand

الآباء وصية الله للأبناء وباب رحمة مفتوح لهم على مصراعيه إن أحسنوا ولوجه، والمتأمل في تعد نصوص الشرع التي حثت على البر بالوالدين وحسن صحبتهما يدرك أهمية الأمر وخطورته والعواقب الوخيمة المترتبة على التتقصير بهما، فتجد بعض النصوص التي قرنت بين عبادة الله والتي هي غاية وجودنا والهدف من خلقنا مع الإحسان للوالدين والبر بهما كما في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فيدرك عظيم حقهما بل وتقديمه على كثير من الطاعات حتى ولو كان الجهاد الذي هو ذروة الإسلام: "جاء رَجُلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَهُ في الْجِهَادِ فقال: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قال: نعم، قال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" [صحيح البخاري].

وقد ذكر الحافظ ابن حجر فوائد هذا الحديث منها: "بر الوالد قد يكون أفضل من الجهاد وأن المستشار يشير بالنصيحة المحضة وأن المكلف يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به، لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فدل على ما هو أفضل منه في حقه ولولا السؤال ما حصل له العلم" [ فتح الباري، ج6 ص158].

فالمسلم يتحرى أفضل الأعمال وأقربها لمراد الله، فحتى في العبادات لا ينتقي ما يوافق هواه بل يسأل عن الأفضل من الأعمال فيشرع به ويبلغ جهده في إتقانها حتى ولو خالفت في نفسه ميل ورغبة في طاعة أخرى.

وفي رواية: "قال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُجَاهِدُ؟ قال: لك أَبَوَانِ؟ قال: نعم، قال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" [صحيح البخاري]، ويعلق الحافظ ابن حجر قائلا: "ففيهما فجاهد أي إن كان لك أبوان فأبلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو" [فتح الباري، ج10 ص454].

بل إن العقوق كان من الكبائر التي نص عليها الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ قال الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وكان مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقال ألا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ألا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فما زَالَ يَقُولُهَا حتى قلت لَا يَسْكُتُ" [صحيح البخاري].

فكم من عاق تنكر لسبب وجوده ولمن قضيا جل وقتهما وهما يتعهدانه ويرعيانه ليصبحا بعد امتداد العمر وردهما إلى أرذله ضيوفا على كثير منا لتجد من يزهد في حسن ضيافتهما وإن تم ذلك فعلى مضض وتبرم ولو سألت عنه لوجدته من روّاد المساجد وممن داوم على السنن من صيام وقيام وسائر القربات وقد غفل أن ثمة فقه في أولويات الأعمال لا بد له من تحصيله ليعبد الله كما يحب الله ويرضى لا كما يُملي عليه هواه.

وقبول العمل إنما يتوقف على الإخلاص وموافقة الشرع، والشرع هو الذي يبين لنا الواجب والأوجب وأفضلية كل عمل في زمانه ووقته، ولو ترك الأمر لأهوائنا لما تحققت العبودية فينا وإنما نحن عبيد الله وملكه نعبده على الصورة التي ارتضاها لنا والكيفية التي شرعها لنا، لذلك عندما رد النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه ليخرج مجاهدا في سبيل الله موضحا ومبيناً له أن الثغر الذي أقامه الله عليه من بر لوالدين وحسن صحبتهما والقيام على شؤونهما في حقه أوجب من أي عمل صالح آخر ولو كان الجهاد في سبيل الله، فكان الامتثال والطاعة لأن من كانت غايته رضا الله وطاعته والامتثال له لا يفرق معه أية ثغرة أقامه الله بها وأوقفه عليها.

وما أصبحت أعمالنا وعباداتنا مجرد طقوس وحركات نؤديها خالية من معانيها فلا تفيض علينا تلك البركة والسعة والأثر التي تضفيه على سلوكياتنا وأخلاقنا إلا بعد ما أصبحنا نؤدي عباداتنا شكليا للتفرغ منها لا للتفرغ لها ولسرعة قضائها قضاء يسقطها عنا لا أداء يخالط ويمازج أفعالنا وسلوكياتنا، فكم من قارئ يقرأ القرآن وهو يلعنه وكم من صلاة لم تتجاوز رؤوسنا.

وبر الوالدين من أبرز العبادات التي ضاعت معانيها واضطربت صلتنا بها في حمأة سباقنا في الحرص على الكم في عباداتنا لا على الكيف، فكم من ملتزم يعتلي المنابر ويقصده الناس في المُلمات وهو عاق لوالديه يمر عنهما فلا يخصص لهما من الوقت إلا سويعات في نهاية الأسبوع بحجة أن غيره يقوم على أمرهما وأنه متفرغ هو لحقل من حقول الدعوة أو مجال من مجالات الدراسة، فإن جالسهما فهو عنهم مشغول إما بإجراء مكالمات قبل عودته لأحضان أسرته، أو بتصفح حساباته على صفحات التواصل، ولو أدرك هذا الغافل أي بركة نزعت من عمره وعمله لقضم أنامله ندما فكم من مجالات الطاعات يمكن تدركها في قابل الأيام أو تجزئ عنه بعض العبادات الأخرى ولكنه أعطاها من الأولوية ما يجور على عبادة إن فاتته لا سبيل لتداركها أو تعويضها حتى إذا أُقفل بابها ما فتحته له كل ويلات الندم.

والإنسان إن لم يراقب الله في أفعاله وأقواله كان هواه إله يأمر فيطاع وينهى فيُجتنب ما ينهى عنه، وهذا ما نلحظه في كثير من أعمالنا بل وطاعاتنا إذ نتعهد العبادات التي تنشط لها النفس ويشتهيها الهوى وقد غفلنا أن ثمة فقه أولويات في الأوقات والأعمال والحقوق والواجبات لا بد لكل مسلم من حد أدنى لتعلمه وتفقهه، بل إن الشرع نفسه لم يغفل هذا الاعتبار؛ فلو أشرف المرء على الهلاك جوعا ولا يجد بين يديه إلا ميتة فله أن ينقذ نفسه من هلاك محتم بتناول لقيمات تسد رمقه وتنقذه من الموت، وكثير منا إما عن غفلة أو إتباع للهوى تجده يقدم فعل النوافل على بعض الفروض، وقد نسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد غازيًا في سبيل الله بسبب أن له أبوين فيكون التوجيه أن ارجع وفيهما فجاهد.

وانظر لفقه الصحابة - رضوان الله عليهم - في تحري أحب الأعمال إلى الله فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قال: الصَّلَاةُ على وَقْتِهَا، قيل ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قيل: ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ" [صحيح البخاري].

ثم تأمل ما رواه أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- وخطورة التقصير بحق الوالدين وتدبر، قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وهو في صَوْمَعَةٍ قالت: يا جُرَيْجُ قال: اللهم أُمِّي وَصَلَاتِي قالت: يا جُرَيْجُ قال: اللهم أُمِّي وَصَلَاتِي قالت: يا جُرَيْجُ قال: اللهم أُمِّي وَصَلَاتِي قالت: اللهم لَا يَمُوتُ جُرَيْجٌ حتى يَنْظُرَ في وجه الْمَيَامِيسِ، وَكَانَتْ تَأْوِي إلى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لها: مِمَّنْ هذا الْوَلَدُ؟ قالت: من جُرَيْجٍ نَزَلَ من صَوْمَعَتِهِ قال جُرَيْجٌ: أَيْنَ هذه التي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لي؟ قال: يا بَابُوسُ من أَبُوكَ؟ قال: رَاعِي الْغَنَمِ" [صحيح البخاري].

ويعلق ابن حجر قائلًا: "وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة وإجابة الأم وبرها واجب، وفي الحديث أيضًا عظم بر الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذوراً" [فتح الباري: ج6 ص540 - 541]، بل ذكر الحافظ ابن حجر أن بعض الفقهاء قدم بر الوالدين وإجابتهما - لا سيما الأم - حتى على عبادة الفرض ما لم يضق الوقت، وهذا في حال العبادة والتقرب إلى الله فكيف إذا كان الأمر في شأن من شؤون الدنيا وملهياتها؟!

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فهمنا المجتزأ بل المبتور عن مراد الله في تشريعاته وأوامره وأننا نعبد هوانا قبل أن نعبد الله إذ نقدّم ما نحب من عبادات تناسب مزاجنا دون مراعاة الأولوية في العبادات والحقوق والواجبات.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …