إن من الأدعية المأثورة عن النبي ﷺ أنه كان يستعيذ بالله تعالى من العجز والكسل، وعلى المسلم أن يستعيذ مما استعاذ منه النبي ﷺ.
قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين": "الإنسان مندوب إلى استعاذته بالله تعالى من العجز والكسل، فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة، والكسل عدم الإرادة لفعلها، فالعاجز لا يستطيع الحيلة، والكـسلان لا يريدها" اهـ.
أولاً: إلقاء الضوء على نظرية "العجز المُتعلَّم".
قام العالم الأمريكي (مارتن سليجمان) بالتوصل إلى نظرية "العجز المُتعلَّم" في عام 1967 وذلك في جامعة بنسلفانيا.
وتعد هذه النظرية من النظريات الهامة في علم النفس حيث سلطت الضوء على ظاهرة نفسية خطيرة بالنسبة للأفراد والشعوب على حد سواء وهي (اكتساب العجز عن طريق التعلم)، حيث ترسخ النظرية لمفهوم العجز واليأس ومن ثم الاستسلام وعدم القدرة على مواجهة الأمور أو محاولة تغييرها.
ﺃﺭﺟﻊ (ﺳﻴﻠﺠﻤﺎﻥ) ﻣﻔﻬﻮﻡ "العجز المُتعلَّم" إﻟﻰ ﺃﻥ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﺗﻌﺮﺽ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻟﻠﻀﻐﻮﻁ ﻣﻊ الترسيخ لفكرة ﺍﻋﺘﻘﺎﺩﻩ ﺑﺄﻧﻪ لن ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ مواجهة هذه الضغوط، ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﻌﺠﺰ أمام المواقف، والأصعب من ذلك أن الشخص يكوِّن صورة ذهنية وقناعة بأنه لن يتمكن من مواجهة مثل هذا المواقف مُستقبلاً، مما يصيبه بعدم الثقة بالنفس وعدم تقدير الذات إلى أن ينتهي الأمر به إلى الاستسلام التام الذي يؤدي بالفرد في النهاية إلى الإحباط والاكتئاب، وما يحدث للأفراد يحدث بالتبعية للشعوب حسب نوع وحجم المشكلة.
ثانياً: طريقة تطبيق نظرية "العجز المُتعلَّم"
1- نموذج لتطبيق نظرية "العجز المتعلم" على الإنسان
قام (مارتن سليجمان) بتطبيق نظريته على كل من الإنسان والحيوان، أما بخصوص الإنسان، فقد قام بإجضار مجموعة من المتطوعين وأخبرهم أنه سيقوم بتعريضهم لضجيج مُزعج للغاية وعليهم التخلص من هذا الضجيج عن طريق الضغط على مجموعة من الأزرار فيما يُشبه حل لغز، فإذا تمكنوا من ذلك سيتوقف الضجيج.
وقام (سليجمان) بتقسيم المتطوعين إلى مجموعيتن إحداهما كان يُعرِّض أفرادها لضجيج مُستمر مهما ضغطوا على الأزرار، والمجموعة الأخرى كان الضجيج يتوقف تماماً إذا تمكنوا من الضغط على الأزرار بشكل صحيح.
لاحظ (سليجمان) أن المجموعة التي تعرَّض أفرادها لضجيج مُستمر أصيب أفرادها باليأس وتوقف معظم أفرادها عن ضغط الأزرار رغم انزعاجهم الشديد من الضجيج وأبدوا استسلاماً تاماً منتظرين توقف الضجيج لسبب أو لآخر، في حين استمرت المجموعة الأخرى في الضغط على الأزرار كلما أتى الضجيج.
قام (سليجمان) بتدوين ملاحظاته على هذه التجربة، وتلخصت الملاحظات في ثلاثة أمور أساسية، وهي:-
1- أي كائن يقوم بنشاط ما ينتظر نتيجة أو رد فعل لنشاطه "مادياً كان أو معنوياً"، وكلما تأخر رد الفعل المُتوقع كلما أصيب هذا الكائن بالفتور وعدم الرغبة في القيام بنفس النشاط.
2- إن الفتور الذي يُصيب الكائن يكون سببه هو "القصور المعرفي" حيث إن الكائن لم يعد يعرف ما المطلوب منه لكي يصل إلى ما يريده وبالتالي يحاول أن يقنع نفسه أنه لم يعد في الإمكان أفضل مما كان!
3- عندما يصل الكائن لمرحلة "أنه لم يعد في الإمكان أفضل مما كان" ينتابه الشعور باليأس ومن ثم يستسلم للأمر الواقع ولا يحاول مُجدداً تغييره أو حتى تعديله بل ويقدِّم الأعذار والمبررات لِمَا طرأ عليه من يأس واستسلام.
إن الكائن الذي يمر بهذه الظروف ويصل لهذه المرحلة يفقد الثقة في قدراته ويشعر بالدونية والانهزامية وعدم القدرة على مواجهة المشكلات، حتى لو أتيحت له فرصة أفضل في ظروف أفضل.
2- نموذج لتطبيق نظرية "العجز المتعلم" على الحيوان
في الهند، يوجد تقليد معروف حيث تقوم مراكز تدريب الفيلة بربط الفيل منذ ولادته بحبل رقيق وبالطبع فان الفيل الصغير في مثل هذا العمر يفشل في التخلص من القيد حتى لو حاول عدة مرات، وبالتالي تكون النتيجة الطبيعية هي أن الفيل الصغير يتوقف تماماً عن أي محاولات أخرى للتخلص من قيده حتى بعد كبر حجمه وزيادة قوته، فترى الفيل مُستسلماً مُستأنساً قد يتمكن طفل صغير من ركوب ظهره أو تقييده وسحبه خلفه دون أدنى مُقاومة.
ثالثاً: أضرار نظرية "العجز المُتعلَّم" على الإنسان
حين يتعرض الإنسان / المواطن لمشكلة صعبة أو لتجربة مؤلمة ويكون عاجزاً على حل هذه المشكلة أو التخفيف من حدة ألمها تعتريه العديد من المشكلات النفسية وتختلف حدة هذه المشكلات النفسية حسب ما يمر به الفرد / المواطن أو ما يتعرض له.
ومن بين هذه المشكلات النفسية:-
1- الإجهاد الذي يصل إلى الإعياء والاكتئاب السريري.
2- الاضطرابات السلوكية التي يغلب عليها العدوانية أو اللامبالاة وعدم الاكتراث بالأمور.
3- صعوبة أداء المهام المهنية والوظيفية المكلف بها الفرد، وخاصة المهام المعرفية التي تتطلب تفكيراً منطقياً.
4- إهمال النظام الغذائي، وعدم الرغبة في ممارسة الرياضة، وقد يتطور الأمر إلى إهمال الجانب الصحي والعزوف عن تناول الأدوية.
5- صعوبة التكيف مع الغير مما يؤدي إلى إهمال العلاقات الشخصية والأسرية والعزوف عن الأنشطة الاجتماعية.
6- ضعف المناعة مما يؤدي إلى زيادة التعرض للأمراض، وبطء التعافي من المشاكل النفسية والصحية.
7- هبوط سقف الطموحات وعدم وجود نظرة مستقبلية للأمور.
إن كل هذه الأعراض قد تتفاوت من شخص إلى آخر إلا أن العامل المشترك في معظم الحالات هو (اضطراب ما بعد الصدمة) حيث أن الشخص الذي يمر بمثل هذه الأعراض يحتاج إلى فترة نقاهة ورعاية لا تقل أهمية عن الفترة المطلوبة لمن يُعاني من مرض عضوي.
رابعاً: علاج نظرية "العجز المُتعلَّم"
إن العجز المُتعلم من الخطورة بمكان لدرجة أن هناك من الأفراد من يُعمِّمُون نظرتهم السوداوية الكئيبة على جميع مجالات حياتهم نتيجة لإخفاقهم في مجال من المجالات.
ومثل هؤلاء الأفراد لابد من دعمهم نفسياً وإقناعهم بضرورة التفكير بأسلوب إيجابي وواقعي، وإقناعهم كذلك بأن طاقات الأفراد مختلفة بل إن طاقة الفرد الواحد تختلف من وقت لآخر ومن موقف لآخر، وليس بالضرورة للشخص الذي يخفق في مجال ما أن يتعرض لنفس الإخفاق في باقي المجالات، وكذلك ليس بالضرورة للفرد الذي أخفق مرة أن يستمر في نفس الإخفاق كل مرة!
وعلى من يعاني من هذا المرض النفسي أن يركِّز على عدة أمور سواء بنفسه أو بمساعدة المختصين، وهي:
1- تعزيز الثقة بالنفس واحترام الذات وتقديرها بدلاً من الشعور بالدونية وجلد الذات.
2- ترتيب الأهداف والمهام الشخصية ووضع الجدول الزمني المناسب لتحقيقها.
3- التخلص من الأفكار السلبية واستبدالها بغيرها من الأفكار الإيجابية والطموحة.
4- الممارسة التدريجية لبعض الأنشطة الرياضية والاجتماعية بما يتناسب مع الحالة النفسية للشخص.
5- الالتزام بالنظام الصحي في المأكل والمشرب والنوم.
6- الحرص على تدعيم الجانب الروحي من خلال المواظبة على العبادات وتأديتها كما ينبغي، وكثرة اللجوء إلى الله تعالى.
قال تعالى: " الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: 28).
7- التدريب على الاستقلالية والاعتماد على النفس لكسر هاجس الإخفاق وتعزيز روح المثابرة.
8- التعلم من التجارب الحياتية حتى ولو كانت غير موفقة لنكتسب من خلالها الخبرة التي تدفعنا للأمام دون إخفاق.
9- التأكيد على أننا لسنا وحدنا الذين نعاني فالله تعالى قال: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ "، والتأكيد على أنه "لكل جواد كبْوة" وهذه هي سنة الله تعالى في خلقه حتى لا يبغوا ولا يتجبروا، والموفق هو الذي يُوفقه الله تعالى لفهم ذلك فينهض من كبوته ولا يستسلم.
10- استرجاع النجاحات والإنجازات التي حققها الفرد من قبل وإقناعه بأنه مازال لديه القدرة على تكرار مثل هذه النجاحات الإنجازات.
أخيراً أقول
إن الأنظمة المستبدة تمارس نظرية "العجز المُتعلَّم" على مواطنيها لتضمن ترويضهم ورضوخهم - دون أي مقاومة- لكل ما يُمارس ضدهم من قهر واستبداد.
الأدهى مما سبق، أن نظرية "العجز المُتعلَّم" قد يمارسها الأب مع أسرته، والمُعلم مع تلاميذه، والقائد مع جنوده، ورئيس العمل مع مرؤوسيه وهم لا يعلمون.
إن كل هؤلاء يفعلون ذلك حين يكلِّفونهم ما لا يطيقون ثم يُمارسون ضدهم النقد اللاذع وتسفيه الآراء فيقتلون بداخلهم الطموح والإبداع، ولا يتركونهم إلا في حالة اكتئاب وإحباط يُرثى لها.
وأقول
لا يفوتنا أن ننبه إلى أن كل ما سبق هو ما توصَّل إليه العلم التجريدي الذي يعتمد على مفاهيم مُجردة قائمة على الاستدلالات الرياضية، ولكن تبقى الحقيقة الثابتة التي مفادها أنه ليس هناك ما هو مُتفق عليه في السلوك الإنساني، فردود الأفعال تتفاوت من شخص لآخر ومن موقف لآخر، بل إن رد فعل الشخص الواحد قد يتفاوت من وقت لآخر، فما قبله الشخص بالأمس قد لايقبله اليوم، والعكس. ومن هنا فإن قوة الإيمان، وعلو الهمة، وروح العزيمة والإصرار من الممكن أن تنسف كل هذه الاستدلالات نسفاً.
ولا يفوتنا أن ننبه كذلك على أن الله تعالى قد حذرنا من اليأس فقال: "وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {87}" (يوسف: من الآية 87).
وحذَّرنا من القنوط فقال: "لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ" (الزمر: من الآية 53).
وحذَّرنا من الاستكانة للأمور فقال: " فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {36}" (هود: من الآية 36).