إن المراقب للأحداث يجد أن النظام المصري بما فعله في فض ميداني رابعة والنهضة قد جعل المواجهة بينه وبين أصحاب الشرعية مواجهة "صفرية" أو مواجهة "تكسير العظام".
إن أصحاب المظالم الذين تم التنكيل بهم وبذويهم بأساليب لم تألفها البشرية ولا تقرها الأديان يأبوا أن تنتهي المواجهة دون أن يتم قطع دابر الذين قاموا بهذا الجُرم والقصاص منهم قصاصاً عادلاً، والنظام يفهم ذلك جيداً ويتعامل مع هؤلاء بنفس المفهوم ويتبع سياسة "الأرض المحروقة" حيث يقوم بتجريف خيرات الوطن ومُقدراته، وإغراقه في الديون، والقضاء على الروابط والصلات بين فئات المجتمع وطبقاته، وتدمير القيم والأخلاق، وتفخيخ كل بقعة على أرض الوطن بما يضمن القضاء عليها قضاءا مُبرماً.
إن رحا هذه المواجهة "الصفرية" بكل ما لها من مظاهر ينتج عنها أسئلة عديدة أهمها، حتى متى؟ وكيف الخلاص؟
وقبل الرد على هذا الاستفسار هناك مجموعة نقاط يجب أن نتفق عليها:-
1- إن كل ما نعيشه الآن ما هو إلا جولة من جولات ثورة يناير التي عجَّلت بخروج الأفاعي من جحورها والدبابير من أعشاشها، أما الخروج وكل ما ترتب عليه كان سيحدث لا محالة، والمتأمل لأحداث ما قبل ثورة يناير يُدرك ذلك جيداً.
2- علينا أن ندرك أننا في مواجهة مع خصم لا يعترف بالقواعد السياسية المُتعارف عليها دولياً ولا محلياً، ولا يحترم القانون ولا الدستور، بل ولا يعترف بشرف الخصومة الذي تعارف عليه أهل الجاهلية الأولى.
3- إن النظام الحالي قام بشيطنة كل خصومه ومُعارضيه وتترس خلف الجُهَّال وأصحاب المصالح والمرجفين وأعداء الدين وسد كل الأبواب منذ أول لحظة بما ارتكبه من جرائم لا تخفى على كل ذي عقل وبصر وبصيرة.
4- إن النظام الحالي يعتبر من هم تحت يديه من المعتقلين رهائن ليساوم بهم وليجعل منهم عِبرة لغيرهم من عموم الشعب.
5- إن المجتمع الدولي قد اتفق على إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية للمنطقة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي لذلك فهو يراقب كل ما يحدث بدقة ولا تصدر منه إلا ردود أفعال مبتسرة لا تتناسب مع الأحداث، ولا صدى لها على أرض الواقع، مما يدل على موافقته على كل ما يحدث حتى ولو بدر منه عكس ذلك في بعض الأحيان.
6- إن النظام عندما يلمح للمصالحة فاعلم أنه يفعل ذلك لأمر من هذه الأمور، أو لكل هذه الأمور:-
- أنه يريد استدراج أصحاب القضية ليفرض عليهم شروطه التي تجعل من وجودهم والعدم سواء، أو يريد أن يقيدهم بقيد جديد أشد ضيقاً وأصعب فتكاً.
- أنه يريد إحداث لغط داخل صفوف خصومه من خلال إحداث تباين في وجهات النظر التي تخص المصالحة مع النظام.
- أنه يريد أن يكسب ضمانات تعفيه من المُساءلة عمَّا ارتكبه من مجازر وانتهاكات سواء في حق الخصوم أو في حق الوطن.
- أنه يشعر بعدم رضا الغرب عنه إما لكونه يحيد عن المسار المرسوم له، أو لكونه قد أدى الدور المطلوب منه ولم يعد هو رجل المرحلة المناسب، وبالتالي يريد أن يلقي حجراً في المياه الراكدة عساه يجد طوق النجاة أو قبلة الحياة.
7- إن النظام عندما يُلمح للمصالحة فهو ينتظر مواقف محددة من أشخاص محددين من القيادات، وهؤلاء لن يرضوا بالدنية حتى لو عُلقوا على أعواد المشانق، لا لشيء سوى لأنهم يربؤون بأنفسهم أن يسُنوا سُنة سيئة ترثها الأجيال من بعدهم وهي أنه إذا اشتد الخطب وتناثرت الأشلاء وكثرت الدماء فروا من المواجهة وقدموا للخصم فرائض الولاء والطاعة!!
بهذه النقاط يمكن أن تتضح الرؤية أمام كل مخلص، ويمكن البناء عليها أثناء حديثنا عن المصالحة، وأثناء حديثنا مع المكلومين الذين يريدون مخرجاً لعشرات الآلاف من المعتقلين وخاصة النساء منهم والمرضى، ولهم كل الحق فيما يريدون.
بعد هذا العرض السريع أقول:
إنني أتفهم مطالب كل هؤلاء من يريدون المصالحة وأتمنى أن تكلل مطالبهم بالنجاح فمطالبهم إنسانية ومشروعة ولابد وأن يُنظر لها بعين الاعتبار والاجتهاد بكل السبل المشروعة لتنفيذها، بما لا يترتب على ذلك مّفسدة أكبر.
وأقول:
إن السجن لا شك مُصيبة كبيرة وابتلاء عظيم، فالسجن قبل أن يكون حبساً للبدن فهو حبس للعقيدة، وحبس للفكر؛ وحبس للإرادة، وحبس للطموح، وحبس للحرية …إلخ.
وبالرغم من كل ذلك فإننا لابد أن نحتكم إلى الشرع والعقل قبل أن نحتكم إلى الهوى والمشاعر، ونعلم أننا نخوض معركة مضمونة النتيجة بأمر من الله تعالى.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:من الآية 55].
يقول الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله: "ومن الخطأ في التعامل مع المحن أن يصبح همنا الأول وشغلنا الشاغل هو كيفية إيقاف الأذى عن الأفراد بأي صورة ولو على حساب الدعوة والمشروع الإسلامي، كأن نبرم اتفاقات فيها تنازل عن أصول الدعوة وثوابتها أو ما شابه ذلك مما فيه مخالفة للشرع والأصول التي قام عليها العمل الإسلامي. مع أهمية الأفراد وضرورة الحفاظ على سلامتهم ودفع الأذى عنهم بكل السبل المشروعة التي تحافظ على كرامة الدعوة وثوابتها وتبقى رايتها مرفوعة. ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة فقد رأي أصحابه يُعذبون، وعُرض عليه المُلك والمال ورأينا رده في مثل هذه المواقف ﷺ؛ فالدعوة باقية والأشخاص زائلون" اهـ.
- إن الخصم يريد أن يكون ثمن المصالحة هو أن تفقد كل ما تملك من فكر وعقيدة وإرادة وأن تكون حريتك حرية منقوصة بل ومرصودة ومشروطة ومحددة في إطار لا تتخطاه، ولن يسمح بممارسة أي نشاط دعوي حتى لو كان مجرد (لقاء في بيت الأرقم)، وأي تجاوز في هذا الجانب سيعيد الجميع للمربع صفر بل لما هو أبعد منه!
- والخصم يريد أن يكون ثمن المصالحة هو الاعتراف الكامل بشرعيته رغم ما ارتكب من جرائم، وهذا دون شك "مفسدة كبيرة"، والقاعدة الفقهية تقول أن "درء المفسدة مُقدَّم على جلب المنفعة".
أحبتي في الله
- إن معالم الطريق واضحة من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا والآيات والأحاديث والمواقف في هذا الجانب أكثر من أن تحصى وهذا ما تربينا عليه في المحاضن التربوية بل وفي الميادين... فهل ننجح في الشق النظري منها حتى إذا جاء الشق العملي لا يجد مناً إلا تأففاً وضجراً وتعجلاً لقطف الثمرة قبل نضجها!
لقد صدق الدكتور محمد بديع حفظه الله حين قال: "إننا لم نكن نهذي حين قلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
يقول الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله: "قد يظن البعض أن استشهاد الشهداء خسارة لحقت بالجماعة بفقدها هذه العناصر الطيبة التي بذلت الجماعة جهوداً كبيرة في إعدادها، لكن الحقيقة أن الجماعة ربحت بشهادتهم ربحاً كبيراً. فالشهادة بالنسبة للدعوات الربانية تعتبر زادًا ووقودًا يُشعِل جذوة الإيمان في قلوب المئات والألوف من الشباب الجُدد، ويعوِّض الله بهم الصف أضعافًاً مُضاعفة. كما أن السجن وإن كان تضييقًا وتعطيلاً للطاقات لكنه مدرسة نافعة لأصحاب الدعوات وفرصة لإعداد العناصر المُمحَّصة المتجردة الصابرة، التي تضرب المثل والقدوة في الثبات علي الحق رغم الشدائد وطول الزمن: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)" (البقرة: من الآية 216) اهـ.
* كما يقول أيضاً: ومن الخطأ في فهم المحن والابتلاءات أن يظن البعض أنه كان من الممكن تفادى المحن بشيء من الحكمة والسياسة مع الأعداء، ولكن المسؤولين ليس عندهم شيء من ذلك فلهذا حدث ما حدث. وهذا أيضًا فهم منحرف خاطئ، إذ لن يتوقف الأعداء عن حربهم لأصحاب الدعوة بقصد القضاء عليهم وعلي دعوتهم إلا إذا تخلوا عنها أو علي الأقل تنازلوا عن بعض جوانبها وخاصة التي تؤذي الأعداء أو تنال منهم ومن مكانتهم" اهـ.
* ويقول: "ومن الخطأ في التعامل مع المحن والابتلاءات الاستسلام لليأس المُفضِي إلى القعود عن مواصلة الطريق أو الانصراف عنه تماماً، فهذا هو مراد الأعداء؛ ولو فعل الدعاة ذلك لفعلوا في أنفسهم ما لم يفعله أعداؤهم بهم. والتعامل الصحيح في هذه الحالة هو الثبات على المبادئ ومواصلة الطريق واستمداد العون والثبات من الله" اهـ.
أحبتي في الله:
لنعلم أن أهل الحق الآن في دورة تدريبية شاقة ومُكثفة ليتعلمو كيف تدار الدول وتنهض الأمم، ولنعلم جميعاً أن لكل نصر ضريبة فلابد أن تدفع الضريبة كاملة وعن طِيب خاطر حتى يأذن الله تعالى بالنصر، فالنصر مرهون بما نقدمه من تضحيات لأجله، ولنعلم جميعاً أن كل بذل مُخلص مقبول بإذن الله، ومأجور، وأن سلعة الله غالية، ولا ينالها إلى من أدى حقها.
- ولنعلم أننا بفضل الله تعالى أقوياء، ولو كنا غير ذلك ما تكالبت علينا كل قوى الشر في الأرض، وما مارسوا كل الضغوط من أجل أن نجلس معهم على مائدة التفاوض ليُملوا شروطهم وليضعوا قيوداً من ذهب مكان القيود الحديدية التي يكبلوننا بها.
- ولنعلم أننا بثباتنا على الحق نشكل شوكة في حلق عدونا تنغص عيشه وتقض مضجعه وتؤرق نومه، قال تعالى: "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)" (النساء: 104).
وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .. وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ