قال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " (آل عمران: من الآية 110).
بين الحين والآخر تهب علينا -باسم مهرجانات الفن واحتفالاته- موجة من التعري والفجور التي تزكم الأنوف، والتي تثير اشمئزاز كل صاحب فطرة سليمة، ومن المعروف أن هذه الموجة ورائها من ورائها من دعاة التحرر والانفتاح الذين لا يعرفون عن التحضر إلا أنه كلما تخلت المرأة عن حيائها وعفتها وتجردت من ملابسها كلما كانت أكثر تحضراً، ولا يعرفون عن الانفتاح إلا أنه كلما زادت الفتحات واتسعت في ملابس المرأة كلما كانت أكثر انفتاحاً وتحرراً!
إن المنطق يقول أن هناك فرق كبير بين الفن والتعري، وفرق أكبر بين استعراض الجسد واستعراض المواهب، وفرق شاسع بين الرقي والإبداع وبين إثارة الغرائز.
والعقل والمنطق يقولان أن ما يفعله دعاة التحرر هؤلاء لا يتفق مع ما يسمونه حقوق المرأة، وحقوق الإنسان، ولا حتى يتفق مع جمعيات الرفق بالحيوان، لأن ما يفعله هؤلاء يجرنا جراً لأيام الجاهلية الأولى بما فيها من أسواق النخاسة وكل مظاهر الدياثة.
والدليل على ذلك أنه في قبلة دعاة التحرر التي يتعبدون في محرابها وهي بلاد الغرب، كلما ارتقت المرأة اجتماعياً وثقافياً كلما حتَّمت عليها أعراف المجتمع أن تكون أكثر حشمة ووقاراً واتزاناً.
يقول الدكتور محمد راتب النابلسي: كنت أُلقي محاضرة في "ديترويت" بأمريكا، وجاءني سؤال من أخت كريمة تسأل عن حكم مصافحة المرأة للرجال!
قلت لها: الملكة إليزابيث لا يصافحها إلا سبعة رجال من رعاياها لعلو مقامها في مجتمعها بحكم القانون البريطاني، والمرأة المسلمة ملكة أيضاً، لا يصافحها إلا سبعة من محارمها لعلو مقامها في مجتمعها بحكم القانون القرآني، فهذا الجواب أقنعها وأعجبها كثيراً.
أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟
جاء في حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: " قيلَ: أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ" (صحيح البخاري).
للأسف، كلما هبت علينا موجة من التعري والفجور هذه نجد من يروِّجون لعبارة تقول: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"، وينسبها قائلها للفاروق عمر رضي الله عنه، والحقيقة أن هذه العبارة لم ترد عن الفاروق عمر رضي الله عنه كما يزعمون، ولا عن غيره.
إن إطلاق هذه العبارة بهذا العموم خطأ كبير لأن أهل الباطل وأذنابهم يتعمدون نشر مثل هذه العبارات بين الناس إسكاتاً لهم حتى لا ينتقدوا الباطل، وبالتالي يتمكن الباطل من تحقيق هدفه الخبيث وهو إضلال العوام ونشر الفسق والفجور وكل ما يزعزع العقيدة في النفوس، وتكون النتيجة أن يستيقظ الجميع ليجدوا أن المجتمع قد أصبح مُستنقعاً من الرذائل والفتن والفواحش والمنكرات.
روى أبو يوسف القاضي في كتاب (الخراج) وأبو نُعَيم الأصبهاني رحمه الله في كتاب (حلية الأولياء) عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إنَّ لله عبادًا يُميتون الباطل بهجره، ويحيون الحقَّ بذكره" اهـ.
إن كلمة (هجره) تختلف تماماً عن كلمة (السكوت عنه)، فالهجر يكون بهجر اعتقاده، وهجر العمل به، وهجر والدعوة إليه، مثل قوله تعالى: { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5).
جاء في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه" (صحيح البخاري).
إن القول الفصل في تعاملنا مع الباطل والفواحش والمنكرات يتلخص في أمرين:
أولاً: إن كان الباطل مغموراً (غير مشتهر) فالسكوت عنه واجب حتى لا يشتهر مع الأخذ في الاعتبار عدم إغفال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه .. وكل حالة تقدَّر بقدرها!
يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه (هجر المبتدع): نصيحتي لكل مسلم سلم من فتنة الشبهات في الاعتقاد: أن البدعة إذا كانت مقموعة خافتة، والمبتدع إذا كان منقمعاً مكسور النفس بكبتِ بدعته، فلا يحرِّك النفوس بتحريك المبتدع وبدعته؛ فإنها إذا حُرِّكت نمت وظهرت" اهـ.
ثانياً: وأما إن كان الباطل مشتهراً ويتم الترويج له وافتتن الناس به أو يُخشى على الناس الفتنة به، فيجب فضحه والتحذير منه ليحذره الناس ويجتنبوه..!
والدليل على ذلك
أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم بعض مقولات أهل الباطل - مع شدة قبحها - وتولى سبحانه وتعالى الرد عليها وتفنيدها بنفسه!
كقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (آل عمران: 181).
وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: من الآية 17).
وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} (المائدة: 64).
وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 73).
وغيرها من ألفاظ الكفر الباطلة التي رد الله تعالى عليها وفنَّدها وأبطلها وأثبت كذب قائليها وافترائهم، بل وكفرهم.
جاء في حديث عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة رضي الله عنه أنه قال: "نَادَى مُنَادِي رَسولِ اللهِ ﷺ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إلى رَسولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: إنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إلَّا كانَ حَقًّا عليه أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ علَى خَيْرِ ما يَعْلَمُهُ لهمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ ما يَعْلَمُهُ لهمْ" (صحيح مسلم).
إذاً، لو كان السكوت على الباطل حلاً لإماتته، ما حاجَّ رسل الله عليهم السلام أقوامهم ليفنِّدوا باطلهم وليعيدوهم إلى ربهم!
ولو كان السكوت على الباطل حلاً لإماتته، فما هي فائدة الدعوة إلى الله إذاً!
ولو كان السكوت على الباطل حلاً، فلماذا أمرنا الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! بل وجعل الله تعالى خيرية أمة محمد ﷺ في قيامها بهذا الواجب، وكذلك لعن الله تعالى من الأمم السابقة كل من قصروا في القيام بهذا الواجب!
قال تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {79}" (المائدة: 78: 79).
فما هو الحل إذاً؟
إن الحل هو فضح الباطل أينما كان طالما أن أصحابه لا يتورعون من تزيينه ونشره والترويج له.
افضحوا الباطل وأهله وحذِّروا الناس منهم أينما كانوا وأينما وُجدوا ولا تتركوا لهم المجال حتى تتسع رقعتهم وينتشر باطلهم، فيهلك الصالح قبل الطالح!
افضحوا الباطل وأهله وحذِّروا الناس منهم قبل أن يكثر الخبث فيجرفنا التيار في طريقه، وقبل أن يعمنا الله بعذاب.
قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آل عمران: 25)
افضحوا الباطل وأهله وحذِّروا الناس منهم فإن مُعظم الدعاة الآن مُبعدون ومُهمَّشون ومُطاردون، وإن قيامكم بهذا الواجب والحال كذلك يُضاعف أجركم بإذن الله تعالى.
افضحوا الباطل وأهله وحذِّروا الناس منهم فإنهم يُسخرون أموالهم وجنودهم وكل ما يستطيعون من حِيل حتى يصم باطلهم آذانكم، ويخرس ألسنتكم، ويشل حركتكم، بل ويسلبكم عقولكمَ.
افضحوا الباطل وأهله وحذِّروا الناس منهم بكل ما استطعتم من وسائل منضبطة، وحُجج ثابتة، وحكمة بالغة، قبل أن يزاحمكم الباطل داخل بيوتكم فتكتووا بناره.
أخيراً أقول
إن كل ما يريده دعاة التحرر والتحضر والانفتاح وأذنابهم هو أن يغرق المجتمع حتى أذنيه في مستنقع الرذيلة فيكون الجميع سواء، ولكن جرت سُنة الله تعالى أن التوبة والاستغفار ومواسم الطاعات تزيل في طريقها كل ما يغرسه هؤلاء من فواحش ومنكرات، وأنهم مهما فعلوا فلن يستطيعوا أن يُغيروا هوية المجتمع إلا إذا غيَّرت جيفة نتنة طهارة نهر جاري.
وأقول
إن العلاج الناجع لإبطال كيد شياطين الإنس هؤلاء هو العمل على ترسيخ العقيدة في نفوس الناس لتكون حصناً مانعاً لا تقوى هذه الشياطين على اختراقه.
{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} (النساء: 27).