يُعاني الكثير مِن الآباء والأمهات، من تعرُّض أبنائهم إلى أزمات نفسية، أو وجود مشكلات سلوكية مزمنة لديهم، وهذا الأمر طبيعي، في ظل طبيعة الحياة المعقدة التي نحياها، وفي ظل الكثير من المشكلات التي باتت تعترض دور الأسرة والمدرسة في تشكيل وضبط سلوك الأطفال.
إلا أن ثمَّة مشكلات كبيرةٍ تعترض سُبُل الآباء والأمهات في التعاطي مع هذه الظواهر، أو تقودهم إلى اتجاهات خاطئة لتقويمها، ولا سيما في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.
ومن بين أهم هذه المشكلات، ما يتعلق بالبيئة الاجتماعية في مجتمعاتنا؛ فهناك منظومة من الرؤى ذات الطابع التقليدي المحافِظ الحاكمة في النظر للأطفال، وكيفية التعامل معهم، وطبيعة أدوارهم المرحلية والمستقبلية.
هذه الرؤى تنطلق في كثيرٍ من جوانبها من طبيعة تغلب عليها القسوة، وعدم الالتفات إلى احتياجات الأطفال التقليدية، باعتبارها شكلًا من أشكال الترف والتدليل غير المرغوب فيهما، وبالذات مع الأطفال الذكور.
ويحضرنا في هذا الأمر، موقفٌ مرَّ به الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع ذلك الأعرابي الذي رآه يقبِّلُ سَبْطَيْه الحسن والحسين - رضي اللهُ عنهما - ويهشُّ في وجهيهما، فأخبره ذلك الأعرابي أنَّ له عشرة من الأبناء ما قبَّل أحدهم أو ابتسم في وجهه قطَّ. حينها قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء" [أخرجه أبو داوود والترمذي].
كذلك تلعب الأحوال المعيشية والاقتصادية دورها في ذلك؛ لأن الطفل مورد رزق للأسرة، في ظل انتشار الفقر، فقد باتت عمالة الأطفال ظاهرة من الظواهر المعتادة في مجتمعاتنا.
إلا أن هناك مشكلة نودُّ إلقاء الضوء عليها أكثر من غيرها في هذه الموضع من الحديث، وهي غياب النظرة الصحيحة لتوصيف بعض المشكلات ذات الطابع النفسي والسلوكي لدى الأطفال، والتي تعود إلى أصول عضوية - لا نفسية - عند الطفل، وتتصل هذه المشكلة بغياب المفاهيم الأساسية للتربية وعلم النفس والاجتماع، عن المجال المعرفي، وسبق أنْ تناولناها في موضع سابق من الحديث.
في غالب الحال، لا يلتفت أولياء الأمور – ربما في مرحلة متأخرة – إلى أن المشكلات التي يجدونها في أطفالهم، مثل فرط النشاط (الطفل الشَّقي بالمعنى الدارِج)، أو السلوك العدواني، أو الكآبة، أو مشكلات النطق، أو التبوُّل اللاإرادي، وغيرها من صور الانحرافات السلوكية والنفسية لدى الأطفال لا يلتفتون إلى أنها قد تعود إلى أسباب عضوية.
وبالتالي، فإن الآباء والأمهات قد يلجؤون إلى بعض أساليب التقويم غير الصحيحة لسلوك الطفل هذا، ومن أسوأها الضرب، وفي بيئاتنا ومجتمعاتنا فإن أسوأ الصور الشائعة لذلك، هي الضرب على الوجه والرأس، بكل ما لذلك من تبعات سلبية سواء على المستوى النفسي أو على المستوى العضوي.
فالدراسات العلمية الحديثة أثبتت أن ضرب الطفل على وجهه، يؤدي إلى قتل الخلايا العصبية، وإحداث اضطرابات في الكلام، ومشكلات في العين، أما الضرب على الأذن، فقد يقول إلى ثقب في طبلة الأذن وفقدان السمع، فيما أن الضرب على الرأس فقد يقود إلى خلل في وظائف المخ، وارتجاج في المخ، في ظل غياب حقيقة مهمة عن الآباء والأمهات، وهي أن أعضاء الطفل تكون في تلك المرحلة لا تزال هشة، وفي طور التكوين أصلًا.
وقد يجتهد بعض الآباء والأمهات في التعامل مع بعض الانحرافات السلوكية والنفسية، بعيدًا عن سياسة العقاب/ الضرب، ولكنهم لا يجدون نتيجةً، مما يدفعهم إلى اليأس، وإهمال البحث في الأسباب الحقيقية لذلك، والتي قد يكون من المهم اكتشافها مبكرًا للحفاظ على حياة الطفل ذاتها.
فهناك الكثير من الأمراض العضوية التي تقف خلف مثل هذه المشكلات، مثل زيادة النشاط الكهربي في الدماغ، أو سوء تمثيل جسم الطفل للعناصر الأيونية، مثل البوتاسيوم والصوديوم، أو مرض السكري، أو وجود أورام في المخ أو إصابات في الحبل الشوكي.
هناك يكون الطفل العدواني، ليس عدوانيًّا عن قصدٍ، أو الطفل الكسول ليس كسولًا عن قصدٍ ومشاغبةٍ منه، أو عدم الاستجابة لتعليمات الأب أو الأم أو المعلِّم في المدرسة، وإنما يكون بسبب وجود مشكلة عضوية لديه، يتحتم معالجتها للقضاء على مثل هذه الظواهر.
وبالتالي فإن أهم ما يجب أن يحرص الآباء والأمهات عليه، هو إجراء الفحوص الطبية اللازمة على جسد الطفل، مثلما يحرص البعض على متابعة أخصائي تخاطب أو سلوك لحالة أطفالهم.
وهنا من المهم للأب والأم، معرفة كل ما يتعلق بالطفل، وتذكُّره دائمًا، بما في ذلك نشاطه خارج المنزل؛ فمن الممكن أن يكون قد تعرض إلى حادث، وقد يبدو بسيطًا، ولا يعلم الأب أو الأم عنه شيئًا، أو قد لا يأخذونه على محمل الجد، بينما يكون قد ترك بصمةً كبيرةً على عضو من أعضاء الطفل، ولا سيما الدماغ، يؤدي إلى خلل سلوكي أو نفسي.
وفي ذلك، تقول الخبيرة النفسية ناديا فخري: إن الحـوادث التي يمـكن أن تقع للأطفال لا حصر لها, سواء أكانت في النطاق العائلي، أو في السياق المجتمعي الخارجي، أو في المدرسة.
وتشير إلى أن أثر الحوادث على نفسية الأطفال، لا يعتمد فقط على طبيعة الحادث، وإنما أيضًا على السن الذي يقع فيه، ومدى تكراره والظروف التي يقع فيها.
وبالتالي فإن أهم ما ينبغي فعله، هو التقييم الجيد للحادث وتأثيراته، لا بالتقليل منه، أو بإعطائه أهمية تزيد عن الحد، ولكن ينبغي وضعه دائمًا في الحسبان.
وهذا الأمر من أهم مهام المعلِّم والمعلِّمة في الفصل كذلك؛ لأنهم الأكثر قدرة على ملاحظة أسباب ما لدى الطفل من مشكلات نفسية أو سلوكية، وردَّها إلى أساسها العضوي إنْ وُجِد.
وفي الأخير... فإنه من الضروري العمل مع الطفل، وفق منظور شامل، لا يهمل أيَّ عامل من العوامل مهما كان، ولا يستسهل أسلوب العقاب/ الضرب، كأسلوب وحيد للتقييم؛ فيكون أحد أسباب تفاقم المشكلة لا علاجها.