لعل أجواء هذا الارتقاء الروحي والمكاني يتجلى في موضوع السورة والذي يتحدث عن رحلة المعراج حيث ارتقى عليه الصلاة والسلام في السماوات العلى إلى حيث لم يصل نبيّ مرسل ولا مَلَك مقرب، حتى بلغ سدرة المنتهى حيث كشف الله له ما شاء من آياته الكبرى
(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
ذلك هو المعراج المكاني، وأما المعراج الروحي فهو الوحي الذي تحدثت عنه السورة والذي هو سبيل المؤمن إلى المعالي، وبه يرتقي في مدارج الجمال والكمال
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى....... فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى).
إن سورة النجم تطرح النموذج الأرقى للإنسان المسلم الذي يتعالى عن سفاسف الأمور، وسيء المعتقدات، فهذا النموذج يزكّي روحه وعقله (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)
ويزكي بصره ونظره (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى).
ويترفع عن الهوى الذي يُغوي صاحبه ويشدّه إلى أسفل في الفكر والسلوك (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).
و يترفع عن الظن الذي لا يغني عن الحق، ولا يحكم على الأمور دون علم أو برهان، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا).
ويسلّم الأمر والحكم لله على عباده (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى).
ويترفع عن الفواحش والرذائل، وإن وقع منها شيء من غير قصد ولا عمد، بادر إلى التوبة والاستغفار (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).
ويطمئن إلى العدل الالهي في مجازاة المحسنين، ومعاقبة المسيئين (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
وأما التربية الإيمانية في سورة النجم، فهي تقرر أنّ الذين أحسنوا هم ليس الذين لا يعصون الله مطلقا، بل لا بد أن يقع منهم صغائر الذنوب وهو ما سمّته الآيات اللّمم، لكنهم في غالب أحوالهم يجتنبون الكبائر والموبقات، ولو اقترفوها أسرعوا إلى ربهم بالتوبة والاستغفار (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).
وإذا كان الأمر كذلك، تنقّلٌ بين طاعةٍ ومعصية، فلا داعي للمباهاة وتزكية النفوس فالله أعلم بمن اتقى، وقد تربى الصحابة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إذا أثنوا على أحد قالوا “ولا نزكي على الله أحداً”. وجاء في صحيح البخاري أنه لما تُـوفّي عثمان بن مظعون في بيت أم عطية ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: « أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي» قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا".
فالله تعالى هو الذي يزكّي من هو أهلٌ للتزكية، كما زكّى نبيّه محمدا في أول السورة: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)وقوله (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، وكما زكى نبيّه ابراهيم أيضا بقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) جاء في تفسير ابن كثير: أي قام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله.
ومن التربية الإيمانية في السورة كذلك قوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى *وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى) وكل هذه الأمور تقرّر حقيقة وقوع اليوم الأخر، من قدرته سبحانه وتعالى على الإحياء والإماتة، وما يكون من البعث و الحساب والجزاء (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) ويؤكد على ذات المعنى مرة أخرى بقوله (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).
ذلك أن تذكّر اليوم الأخر وما فيه، يعين المؤمن على الارتقاء في مدراج الطاعة، وتجنب السقوط في مهاوي الخطيئة.
ثم يذكّر الله المشركين من أهل مكة بما حدث للأقوام السابقة من الهلاك والعذاب بسبب كفرهم، وأن هذا نذير لهم إن لم يؤمنوا فسيصيبهم ما أصاب الأوّلين من قبلهم، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى).
ويخاطبهم – تبارك وتعالى - أنّ أمر الساعة واقع، وأنه قريب، وأنه إذا وقع فلا مردّ له، فما بالكم تعجبون من أمر هذا القرآن وتعرضون وتلتهون عنه، وتسخرون منه وتضحكون، وأنتم غافلون، بدل أن تبكوا لمصيركم الذي ينتظركم، فأولى لكم أن تعبدوا ربكم وتسجدوا له كما قال تعالى في ختام السورة " أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا".
ولعل الختام بالسجود وهو معراج المؤمن بروحه وقلبه في صلاته، يلتقى مع ما بدأته السورة من معراج نبيّنا محمد – صلى الله عليه وسلم - في السماء حيث فُرضت الصلاة، وصدق الله (كلاّ لا تطعه واسجد واقترب) وصدق رسوله القائل (أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاءَ) رواهُ مسلم.
هذا والله اعلم