آيات سورة الذاريات مفعمة بالحركة والحيويّة... فمنذ أول السورة ترى مشاهد الحركة تباعاً....
فالرياح تحرّك التراب وغيره (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا)، والسحب الحاملات تتحرك لينزل المطر هنا وهناك (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)، والفلك تنخر عُباب البحر لتنقل الأرزاق من بلد إلى بلد، (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا).
والملائكة تتحرّك بين السماء والأرض لتنزل بالرزق المقسوم للعباد بأمر الله (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا).
وبعد الأقسام الأربعة في مطلع السورة يأتي جواب القسم (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) وهذه القضية الأولى التي تطرحها السورة، فالقيامة حق، والحساب واقع، لكن يُصرف عنه من أعمت عينيه الغفلة، فعاش في هذه الدنيا ساهياً لاهياً، ولم يعدّ نفسه لحساب أو جزاء.
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ)
وتعرض السورة مشهدين، لفريقين يوم القيامة، مشهد الكافرين وعذابهم (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)
ومشهد المتقين وجزاءهم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)
فترى رأي العين مصير الفريقين، لتقرّر في أي الفريقين تكون؟ أتكون من فريق الغافلين الخاسرين؟ أم تكون من فريق المتقين الفائزين؟
وكي تعرف سبيل النجاة في ذلك اليوم، تسرد لك الآيات صفات أولئك الفائزين....
فهم محسنون (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)
إحسان إلى الله (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)
وإحسان ٌ إلى الناس (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
وتقيم الآيات الحجة والبرهان على البعث والنشور، بذكر قدرة الله على خلق السماء والأرض والنفس، فالسماء خلْـقُها محكم متقن (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، والأرض آيات خلقها مبثوثة للمتأمّلين (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ).
وفي خلق الانسان إعجاز يُكتشف يوما بعد يوم (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) بل وفي كل شيء دليل شاهد على ألوهيته وربوبيته (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ومن بعد ذلك ذكرى لمن أراد أن يهتدي إلى الله (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
ثم تنقلنا الآيات إلى نوع آخر من الحركة، إنها حركة ابراهيم عليه السلام حين أسرع لخدمة ضيوفه، والذين تبيّن بعد ذلك أنهم ملائكة مكرمون، لا يأكلون ولا يشربون، ولكنه كَرَم الضيافة من إبراهيم عليه السلام (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) وكلمة " راغ " تدل على حركة سريعة لا يحسّ بها الضيف كي لا يشعر بحرج أو خجل، فما هو وقت يسير حتى يجد أمامه مائدة فيها أطيب الطعام والشراب.
وكان قدوم الملائكة لأمرين: الأول بشارة والثاني نذارة، فأما البشارة فكانت لابراهيم عليه السلام بالولد وقد بلغه هو وزوجه الكبر (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)، فما أن سمعت زوجه بالخبر حتى صكّت وجهها عجبا ً، وهي حركةٌ عفويّةٌ تضرب بها المرأة وجهها ويصحبها صوت، كعادة النساء عندما يسمعن خبراً يفاجئهنّ (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ).
وأما الأمر الثاني فهو نذارة لقوم لوط بالعذاب، أولئك القوم الذين انتكست فطرتهم، فأتوا الرجال شهوة من دون النساء، فلما جاء الملائكة لوطا في داره، وكانوا في أحسن صورة، راودوه عن ضيفه، والمراودة هنا حركة تدل على التكرار والإصرار، فاستحقوا بذلك العذاب، فكان عذابهم حجارة سقطت عليهم من السماء (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)
وتدعو السورة بعد ذكر البعث ثم ذكر العذاب الذي حل بالأقوام السابقة، إلى حركة مندفعة بلا تردّد، وهي اللجوء إلى الله بقوة صدقا ويقينا (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).
ومن خاف شيئا فرّ منه، أما من خاف ربّه فرّ إليه، فهو من سيسبغ عليك الأمن والطمأنينة، فيبدّل خوفك أمنا وفرارك سكنا.
وأما الموضوع الثاني والذي تطرحه السورة، فهو قضية الرزق وهو حركة وسعي في الأرض لطلب المعاش، ولعل الأقسام التي كانت في بدايات السورة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالرزق، فالرياح الذاريات تنقل حبوب اللقاح لتنضج الثمارفي النبات وهذا رزق، والسحب الحاملات تسوق المطر وهذا رزق، والأفلاك الجارية في البحر تنقل الأرزاق، والملائكة المقسمات تنزل بالرزق كما أمر الله.
ويؤكد تبارك وتعالى أن الرزق مكتوب ومحفوظ في السماء وأنه لا شك في هذه الحقيقة كمن لا يشك في سماع صوته إذا نطق (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).
ولعل الكثيرمن الناس شغله طلب الرزق، حتى جعله غاية وجوده في هذه الحياة، وألهاه ذلك عن الغاية الحقيقية التي خُلق من أجلها وهي عبادة الله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
وكأن الآيات تقرّر قاعدةً من شقيّن، من قام بالشق الأول وهو عبادة الله تحقّق له الشق الثاني وهو ضمانة الرزق، فمن أدى حقّ الله أولا بعبادته، أصلح باله وضمن له رزقه.
ومن اللافت في السورة تكرار ورود كلمة السماء، فجاء وصف بناء السماء في قوله تعالى: "وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ" وقوله " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" ثم الرزق في السماء " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ".
ومع أن أسباب الرزق وأشكاله كلّها في الأرض، لكنها لفتة كريمة ليجعل المسلم نظره وقصده إلى المُسبّب لا إلى الأسباب، إلى الرزّاق الذي هو في السماء، فلا يعبد إلا هو، ولا يرجو ويخاف إلا هو، ولا يطلب الرزق إلا منه.
إنها تزكية للمسلم كي يتخلص من أثقال الأرض وأدرانها، ليرقى بروحه إلى السماء، فتترفّع نفسه عن السقوط إلى أسفل والتعلق بزينة الأرض وما عليها، ويسمو إلى الأعلى و يرجو ما عند الله والدار الأخرة.
هذا والله أعلم