يقص الله -جل شانه- علينا الكثير من قصص السابقين ليكون لنا في ذلك عبرة وعظة فنتجنب مسالك الظالمين ونقتفي أثر المحسنين، والقرآن الكريم من أهم عوامل تزكية النفس وتهذيبها بل هو الأساس في صلاح الفرد والمجتمع إذا تُرجمت آياته وتعاليمه وشرائعه في سلوكياتنا وأخلاقنا وسائر تعاملاتنا.
والمتدبر في كتاب الله وسنة نبيه الكريم يدرك أسباب الانحراف عن جادة الشرع فيمن قبلنا وأنه لا مجال من الحذر وتجنب الوقوع في أخطائهم إلا بوقاية النفس وحمايتها من أن تسلك مسالكهم وذلك بالاعتصام في حبل الله المتين واتباع أمره واجتناب نواهيه.
ويذكرُ لنا القرآن الكريم آفة من أهم الآفات القلبية التي تزاحم الإيمان فتخرجه من قلب صاحبه؛ ألا وهي الحسد، فتعيث فيه فسادًا فإذا ما فسد القلب تبعه بذلك سائر الجسد استنادا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (متفق عليه) وصارت الجوارح جنوده المؤتمرة بأمره والمترجمة لما قد رسخ فيه وتفسد عليه معتقده وإذا فسد المعتقد حبط العمل وخسر صاحبه وانطمست فطرته.
ونقف في هذه السطور على ثلاثة نماذج تناولها القرآن الكريم وقد اشتركت هذه النماذج في نفس الآفة وجمعهم بذلك نفس المصير والنهاية:
النموذج الأول/ إبليس عدو الله
يقص القرآن الكريم علينا خبره في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
وجاء في تفسير هذه الآية: "حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام" [ ابن كثير، عمدة التفسير: ص 96]، فكان الحسد أساس استكباره على أمر الله ومشيئته فالنتيجة اللعن والطرد من رحمة الله وجر بذلك وبالا على نفسه لا ينفع معه الندم.
وسيظل قلب الإنسان هدف سهام الشيطان ومرتعا خصبا للأمراض التي تورد المهالك ما لم يكن نبيها فطنا يعرض نفسه على طبيب القلوب ومصدر شفائها قرآن ربه وسنة نبيه؛ فالانشغال بأوامرهما واجتناب نواهيهما تطبيب للقلب المبتلى والله لا يضيع أجر من جاهد فيه واصطبر على ذلك.
سيظل قلب الإنسان هدف سهام الشيطان ومرتعا خصبا للأمراض التي تورد المهالك ما لم يكن نبيها فطنا يعرض نفسه على طبيب القلوب ومصدر شفائها قرآن ربه وسنة نبيه
النموذج الثاني/ ابنا آدم عليه السلام
ويخبرنا الله تعالى كيف كان الحسد المرض العضال الذي أصاب قلب ابن آدم، إذ اعتدى على أخيه فقتله حسدًا لأن الله تقبّل منه قربانه، ففاز المقتول وباء القاتل بالخسران والندم والحسرة في الدنيا والآخرة. تدبر قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]
النموذج الثالث/ بنو إسرائيل
وما أكثر آي الله التي تتحدث عن بغيهم وعلوهم واستكبارهم وكفرهم وما ذلك إلا حسد من عند أنفسهم لثلة المؤمنين، ومن بعض ما يقوله جل شأنه في كتابه العزيز عن بني إسرائيل وأسباب ضلالهم وكفرهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، ومما جاء في تفسير هذه الآية: "من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، تبين لهم أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً؛ إذ كان من غيرهم" [ابن كثير، عمدة التفسير: ص 143]، وتدبر قوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69]، ففي هذه الآية: "يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبَغْيهم إياهم الإضلال، وأخبر أنْ وَبَالَ ذلك إنما يعود على أنفسهم" [ابن كثير، عمدة التفسير: ص 340]
ويخبر الله سبحانه عن النهاية التي وصل إليها بنو إسرائيل بسبب حسدهم في قوله جل شأنه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، فقد كان اليهود من خلال التوراة يعلمون بقدوم نبي في آخر الزمان بل ويستنصون به على أعدائهم ويستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلمّا بُعث من العرب حملهم الحسد والبغي على الكفر والجحود به. [ابن كثير، مختصر المنهاج: ص 14]
ولما يترتب على الحسد من أخطار جسيمة يرتد أثرها على سلامة المعتقد وأواصر الأخوة وسلامة الفرد والمجتمع كان التوجيه النبوي الكريم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا..." [صحيح مسلم]، وشرح ابن رجب الحنبلي رضي الله عنه وأرضاه شرحا مستفيضا وقسم الحسد فيه لأقسام أربعة: [جامع العلوم والحِكَم: ص 534 : 536 بتصرف يسير]:
الأول/ يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل.
الثاني/ يسعى في إزالة عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه وهو شرهما وأخبثها، وهو كان ذنب إبليس.
الثالث/ إذا حسد غيره لم يعمل بمقتضى حسده ولم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل.
الرابع/ إذا وجد في نفسه الحسد سعى في إزالته وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون المسلم خيراً منه وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان.
بل إن المتدبر في النماذج السابقة يفهم الحكمة من وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحسد بالداء في قوله عليه السلام: "دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" (سنن الترمذي)، فهل يسمع هذا عاقل ولا يفر منه فرار المعافى من المجذوم؟!
وليس أنجع لعلاج هذا المرض من مراعاة الأمور الآتية:
1. رأس الأمر كله: الإخلاص لله والتوجه إليه بالكلية، فمن كان مخلصا لله لا يبالي إن أقامه الله على إمارة البلاد والعباد أم اختاره بالجندية أو حتى بإعداد الطعام فالله حكيم بتقديره وكل له رسالته فيما أقامه الله عليه.
من كان مخلصا لله لا يبالي إن أقامه الله على إمارة البلاد والعباد أم اختاره بالجندية أو حتى بإعداد الطعام فالله حكيم بتقديره وكل له رسالته فيما أقامه الله عليه
2. الانشغال بالنفس: فلا تنشغل إلا بما أنت به مكلف ومنك مطلوب والدائرة التي أوقفك الله بها.
3. لا تنظر لما متع الله به غيرك: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَ} [طه: 131].
4. أن تدرك أنّ عاقبة حسدك واعتراضك لا يعود إلا عليك ولا يضر إلا بك ولا يغير من الواقع شيئا وأمر الله نافذ، فلا تقتفي أثر إبليس وابن آدم القاتل وبني إسرائيل المغضوب عليهم.
وأخيرًا، احذر أن يصيبك داء الأمم فيوردك المهالك وتكون معول الهدم الذي يعيث دماراً وفسادا في البلاد والعباد، واستعن بالله ولا تعجز.