الرجولة “غاية أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة” (2-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » الرجولة “غاية أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة” (2-2)
Muslim_Brotherhood_RTX12UCX

تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن بعض معالم الرجولة التي نفتقدها، وذكرنا أن الرجولة لا تتقزم إذا وجدت المُغريات، ولا تتوارى إذا حدثت المَلمَّات، وقلنا أن الرجولة اختيار وليست إجباراً، فمن سار في دروبها وعلِم شِعابها وخصالها قدَّم الرقاب دونها.

وتحدثنا بعد ذلك عن ثلاث نقاط أساسية، وهي:-

أولاً: ميزان الرجولة في الإسلام.
ثانياً: بعض نماذج الرجولة التي وردت في القرآن الكريم.
ثالثاً: بعض مواقف الرجولة في صدر الإسلام.

وبفضل الله تعالى سنتحدث في هذا الجزء عن:-

رابعاً: سُبل ووسائل غرس الرجولة

إن من أهم متطلبات الرجولة هي التربية الصحيحة للفرد منذ نعومة أظفاره، هذه التربية الصحيحة للفرد ينتج عنها شخصية سويَّة قويَّة متزنة قادرة على تحمل المسؤولية في ضوء الشرع الحكيم، وهذا ما حرص عليه النبي ﷺ في تربية نشء المسلمين، وما أوصى به عموم المسلمين.

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "أُتِيَ النبيُّ ﷺ بقَدَحٍ، فَشَرِبَ منه، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ القَوْمِ، وَالأشْيَاخُ عن يَسَارِهِ، فَقالَ: يا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ، قالَ: ما كُنْتُ لِأُوثِرَ بفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يا رَسولَ اللَّهِ، فأعْطَاهُ إيَّاهُ" (صحيح البخاري).

أما عن أهم سُبل ووسائل غرس الرجولة فنجملها فيما يلي:-

1- من وسائل غرس الرجولة، أن يُوقن الرجل أن هناك فرق بين الذكر والأنثى، كما أخبرنا الله تعالى فقال: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى"، وذلك من حيث طبيعة الخلق والخلقة والقدرة على تحمل المشاق والصبر عليها.

حين يفهم الرجل ذلك تراه يتصرف بمقتضيات الرجولة وأخلاقها فلا اختلاط ولا ميوعة ولا تخنث ولا غير ذلك مما يطعن في رجولته ويحط من قيمته، وحين يفهم ذلك فلا ضجر ولا تأفف ولا منِّ بجهد ولا نفقة ولا غير ذلك .

عن عُثْمَان النَّهْدِيّ رضي الله عنه قَالَ: "أَتَانَا كتاب من عمر بن الْخطاب وَنحن بِأَذربِيجَان مَعَ عتبَة بن فرقد: أما بعد: فَاتَّزِرُوا وَارْتَدوا وَانْتَعِلُوا وألقوا الْخفاف وألقوا السراويلات وَعَلَيْكُم بِثِيَاب أبيكم إِسْمَاعِيل. وَإِيَّاكُم والتنعم وزي الْعَجم وَعَلَيْكُم بالشمس فَإِنَّهَا حمام الْعَرَب وَتَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشنُوا وَاخْلَوْلقُوا واقطعوا الركب وانزوا على الْخَيل نَزْوًا وَارْمُوا الْأَغْرَاض" اهـ.

وَتَمَعْدَدُوا: الزموا عَادَة معد بن عدنان فِي أخلاقه وزيِّه وفروسيته وأفعاله.
وَاخْشَوْشنُوا: افعلوا مَا يُوجب الخشونة ويقوِّي الْجِسْم ويصبِّره على المشاق.
وَاخْلَوْلقُوا: كونوا على استعداد لما يُطلب منكم من مهام وَكُونُوا خلقاء بِهِ جديرين بِفِعْلِهِ.
واقطعوا الركب: لا تعتادوا على الركب دَائِماً بالركاب.
وانزوا على الْخَيل نَزْوًا: واقفزوا على الخيل قفز الفرسان الشجعان.
وَارْمُوا الْأَغْرَاض: احرصوا على إصابة الهدف إذا رميتم.

2- الفهم الصحيح لمعنى القوامة، وأنها تكليف قبل أن تكون تشريفاً. وواجبات قبل أن تكون حقوقاً.

3- التربية على الشهامة وإغاثة الملهوف وعون الضعيف.

- قال تعالى: " وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24}" (القصص: 23-24).

- وقال تعالى: "وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {9} إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى {10}" (طه: 9-10).

- وعن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ ما كانَ النبيُّ ﷺ يَصْنَعُ في بَيْتِهِ؟ قالَتْ: كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ" (صحيح البخاري).

4- الغيرة المنضبطة على العرض.

يغار الولد على أخته، والرجل على زوجته وأهله وذويه، والجار على جارته.. كل ذلك بمقتضيات الشرع وضوابطه وأحكامه، دون إفراط ولا تفريط، ودون تعسف ولا تبلد.

5- التربية على عدم الاستهواء لخوارم المروءة وطواعن الرجولة.

إن الرجولة الحقة لا تستدرج لاعتناق ما يتنافى مع العقيدة، ولا التطلع إلى ما في حوزة الغير، ولا تقليد أصحاب الثقافات المُغايرة فيما يُعارض ما تربَّى عليه الفرد من أعراف وتقاليد صحيحة، وفيما يؤدي إلى الاستقطاب والذوبان وفقدان الهوية.

إن وسائل غرس الرجولة كثيرة إلا أنني آثرت التركيز على هذه الوسائل الخمس لأولويتها ولأهميتها، ولكون أن أعداء الإسلام يضعون هذه الوسائل في قمة اهتماماتهم للحد الذي جعل الرجل يفقد رجولته والمرأة تفقد أنوثتها وأصبحا في صراع مرير داخل حلقة مُفرغة لا تبني بيتاَ ولا تقوِّم مِعوجَّاً ولا تحقق غاية ولا تبقي وُدَّاً.

خامساً: رجولة أهل الجاهلية

إن صفة الرجولة ليست حِكراً على أحد حتى يستأثر بها مُسلم دون مُشرك، ولا رجل دون امرأة، وحتى لا يستأثر بها جيل دون جيل.

إن صفة الرجولة تحلَّى بها كثيرين من أهل الجاهلية فخلَّدها التاريخ بأسمائهم لينبأنا بأننا أولى بهذه الصفة وأهلها ولا يجب أن يسبقونا إليها ولا أن ينافسونا فيها، ومن هذه النماذج:-

1- كان المُطْعِمُ بن عدي من مشركي مكة ومات على الشرك ولكن بعد غزوة بدر قال النبي ﷺ في أُسارى بدرٍ: "لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيّاً، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ له" [صحيح البخاري].

لقد قال النبي ﷺ ذلك اعترافاً بشهامة المطعم بن عدي ومروءته؛ لكونه أجار النبي ﷺ وسمح له أن يدخل مكة في جواره بعد عودته من الطائف حيث دعا المُطْعِمُ بنيه وقومه، وقال: "البسوا السِّلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرتُ محمداً"، ثم قام المُطْعِمُ على راحلته، فنادى: "يا معشر قريش، إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم"، فانتهى رسول الله ﷺ إلى الركن، فاستلمه، وصلَّى ركعتين، وانصرف إلى بيته ومُطعِم وولده مُحدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.

ومما عُرف عن المُطْعِمُ بن عدي أنه كان أحد الخمسة من المشركين الذين سعوا في نقض الصحيفة الجائرة وإنهاء الحصار الظالم الذي فرضته قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين، حتى قال أبو جهل: "هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، وتُشُووِر فيه بغيرِ هذا المكان".

2- عندما علمت هند بنت عتبة أن السيدة زينب رضي الله عنها تتجهَّز للحاق بأبيها في المدينة ذهبت إليها وقالت لها: "يا ابنة محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحاق بأبيك؟ أي ابنة عم، إن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تتخوفي منِّي فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال".

قالت السيدة زينب رضي الله عنها: "والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك".

ولقد ذمَّت هند بنت عتبة الرجال الذين أردوا منع السيدة زينب رضي الله عنها من الهجرة للمدينة قائلة:
أفي السلم أعياراً جفاءً وغلظةً * وفي الحرب أشباه النساء العوارك

3- جاء في الشعر الجاهلي أن عنترة بن شدَّاد قال:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي *** حَتّـى يُواري جـارَتـي مَأواهـا
إِنّي اِمـرُؤٌ سَمـحُ الخَليقـَةِ مـاجِــدٌ *** لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواهـا

سادساً: نساء ارتقين بهمتهن وشجاعتهن فوق قمم الرجولة

سبق أن ذكرنا أن صفة الرجولة ليست حكراً على أحد حتى يستأثر بها الرجال دون النساء، فهناك في التاريخ الإسلامي مِن النساء مَن سطرن بأحرف من نور صفحات من صفات الرجال عزَّ على كثيرين ممن يُلقبون بالرجال أن يبلغوا مِعشار ما قدَّمن، ومن بين هؤلاء:-

1 - السيدة نسيبة بنت كعب:
شهدت أم عمارة (نسيبة بنت كعب) ليلة العقبة، وشهدت أُحُدًا والحُديبية ويوم حُنين ويوم اليمامة، وجاهدت وفعلت الأفاعيل، وقُطعت يدها في الجهاد، قال رسول الله ﷺ: "لَمقام نسيبة بنت كعب اليوم خيرٌ من مقام فلان وفلان".

وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "ما التفتُّ يوم أُحد يمينًا ولا شمالًا إلَّا وأراها تقاتل دوني".

3- السيدة صفية بنت عبدالمطلب:

في غزوة الخندق وضع النبي ﷺ النساء والأطفال في الحصون لحمايتهم، فكانت صفية وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن في حصن حسان بن ثابت، وكان من أمنع حصون المدينة، وبينما كان المسلمون منشغلين بقتال عدوهم، تسلل يهودي وطاف بالحصن يتجسَّس على أخباره، فأدركتْ أنه يريد معرفة أفي الحصن رجال أم أنه لا يضم غير النساء والأطفال، فحملت عمودًا وتلطَّفت حتى كانت في موضع تمكَّنت فيه من عدوها، ضربتْه على رأسه فوقع، فانهالت عليه حتى مات؛ لكي لا ينقل خبرهم إلى قومه، ثم حزَّت رأسه بسكين، وقذفت بها من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج حتى استقر بين أيدي يهود كانوا يتربصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم، قالوا : "قد علمنا أن محمدًا لم يكن ليترك النساء والأطفال من غير حُماة"، فعادوا أدراجهم.

وختامًا أقول

ماذا لو تمكنا من استرداد قيم وصفات الرجولة التي عَزَّت في زماننا!!

بالطبع سيتوارى أصحاب التخنث والميوعة، وسيخجل سيئ السمعة عديم الخلق، وستقل المشكلات، وسينعم أفراد المجتمع بمناخ يساعدهم على تفجير ما لديهم من طاقات وحسن استغلال ما يمتلكون من إمكانيات، وستشرق شمس العزة من جديد، وسيُخرج الله من بيننا "رجل ذو همة ليحيي به موات الأمة".

وبالطبع سيتغير وجه العالم وستتبدل موازين القوى وستدين البشرية بالولاء للإسلام والمسلمين، ولن نسمع مقولات وعبارات مثل (أقليات مسلمة، تطهير عرقي للمسلمين، تهجير قسري للمسلمين، قتل على الهوية للمسلمين...)، وغير ذلك من العبارات التي ما تجرَّأ غير المسلمين على ترديدها إلا بعد يقينهم أنهم يخاطبون أمة طُعِنت في رجولتها حتى أصبح رجالها كالنعاج بين يدي القصَّاب.

وأقول

إن خير ما تقوم به دولة لشعبها هو العمل بشتى السبل على استرداد الرجولة وتوفير أسبابها، ولن يكون ذلك إلا بتربية النشء على مائدة القرآن وهدي الحبيب المصطفى ﷺ، حينها سنجد رجالاً شامخين شموخ الجبال، لهم نفس أبيَّة تواقة لا تقبل الذل إلا بين يدي الله، ولا تركع إلا في الصلاة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …