الرجولة “غاية أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة” (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » الرجولة “غاية أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة” (1-2)
muslims brotherhood

الرجولة قبل أن تكون صوتاً في الميادين عالياً فهي صوت في المحراب باكياً.

الرجولة امتحان لثبات الأخلاق واتزانها، وليست انتصاراً للنفس وكبريائها.

الرجولة لا تتقزم إذا وجدت المُغريات، ولا تتوارى إذا حدثت المَلمَّات.

الرجولة اختيار وليست إجباراً، فمن سار في دروبها وعلِم شِعابها وخصالها قدَّم الرقاب دونها.

الرجولة ليست زوجاً متعنتاً يمارس سطوته على زوجة ضعيفة تركت بيتها وأهلها لتعيش في كنفه وتسْعَد برفقته وتطيع أمره، كل ذلك، ليُعوِّض ضعف شخصيته ونقص كرامته وحُمق رجولته.

الرجولة ليست تغريراً بفتاة، ولا تخبيب (إفساد) امرأة على زوجها "ليسَ منَّا من خبَّبَ امرأةً علَى زوجِها" (سنن أبي داود).

الرجولة تضحية وعطاء دون منِّ ولا أذى، ودون انتظار لمغنم ولا ثناء.

الرجولة ليست أن تنتقم من مخالفك ولا أن تصادر رأيه، بل أن تقنعه بصحة مبدئك، وصدق غايتك، وصفاء نِيِّتك، ونُبْل مَقصدك، قبل أن تكوِّن فيه رأياً أو تصدر ضده حُكماَ.

الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ طاعن في السن وسلوكُه وتصرفاته تصرفات الأطفال، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير ولكنه ذو بنيان ولحية وشارب.

الرجولة عفة وحياء وهمة في السماء، وتطلع إلى معالي الأمور، وترفُّع عن الدَّنايا والرَّزايا.

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "إنَّما النَّاسُ كالإِبِلِ المِائَةِ، لا تَكادُ تَجِدُ فيها راحِلَةً" (صحيح البخاري).

أولاً: ميزان الرجولة في الإسلام

إن ميزان الرجولة في الإسلام ليس المال، وليس المنصب والجاه، وليس الحسب والنَّسب، وليس قوة البنيان. إنما الأعمال الصالحة، والخلق الحسن، والإيمان القوي، والعزم الفتي.

1- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: "مَرَّ رَجُلٌ على رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جالِسٍ: ما رَأْيُكَ في هذا فَقالَ: رَجُلٌ مِن أشْرافِ النّاسِ، هذا واللَّهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ ﷺ: ما رَأْيُكَ في هذا فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا رَجُلٌ مِن فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمع لِقَوْلِهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا" (صحيح البخاري).

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، وقالَ: اقْرَؤُوا، {فَلا نُقِيمُ لهمْ يَومَ القِيامَةِ وزْنًا}" (صحيح البخاري).

3- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أمرَ النبيُّ ﷺ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ أن يصعدَ شجرةً فيأتِيَهُ منها بشيٍء فنظرَ أصحابُه إلى ساقِ عبدِ اللهِ فضحِكوا من حُمُوشَةِ ساقَيهِ فقال رسولُ اللهِ ﷺ ممَّا تضحكون لَرِجْلُ عبدِ اللهِ أثقلُ في الميزانِ من أُحُدٍ" (السلسلة الصحيحة).

4- جاء في "الفتاوى الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "... ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ، ولا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان" اهـ.

5- يقول الإمام حسن البنا رحمه الله: "إنَّني لا أؤلف كتبًا يكون مصيرها تزيين الرفوف وأحشاء المكتبات، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالاً أقذف بالرجل منهم في بلد فيُحْييه، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس، ويَقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالاً، كما أُلِّف هو من قبل" اهـ.

من هنا نعلم أن الرجولة ليست مجرد صفة لصنف من البشر، فكثير من الذكور لا تجد في أخلاقهم سوى السَّفه والمُيُوعة، وهناك من النساء والصبيان من لا ترى منهم سوى فتوة الشباب وهمة الرجال.

ثانياً: بعض نماذج الرجولة التي وردت في القرآن الكريم

1- قال تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً {23}" ( الأحزاب: 23).
إن الرجولة هنا تتمثل في الوفاء بالعهد مع الله، ومع النفس، ومع الخلق أجمعين، صالحهم وطالحهم، بارهم وفاجرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، شريفهم وحقيرهم.

2- قال تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36}‏ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37}" (النور36 - 37).
والرجولة هنا تتمثل في أن الرجال هم روَّاد بيوت الله وعُمَّارها، وأنهم قد جعلوا الآخرة أكبر همِّهم، فلم يشغلهم عنها شاغل، فصمدوا أمام المُلهيات، واستعلوا على المُغريات.

3- قال تعالى: "فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24}" (القصص: 24).
والرجولة هنا في أسمى معانيها وأسمى أوصافها وصفاتها تتمثل في المروءة والعِفة من كليم الله موسى عليه السلام، فبالرغم من كونه مُطارداً غريباً تجرَّد من كل شيء إلا أنه لم يتجرد من صلته بربه، فضرب مثالاً يحتذى في المروءة والعفة التي حُرم منهما كثير من الرجال، إلا من رحم ربي.

4- قال تعالى: " قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {23}" (المائدة: 23).
والرجولة هنا تتمثل في الشجاعة، والإقدام، والمبادرة، وتثبيت المؤمنين وقت الفتن والمحن والابتلاءات.

5- قال تعالى: "وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20}" (القصص: 20).
والرجولة هنا هي تحمُّلُ مسئولية النصح في الله تعالى، والدفاع عن أولياء الله مهما كلَّف الأمر.

6- قال تعالى: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ {20}" (يس: 20).
والرجولة هنا هي القدرة على الجهر بالحق وتحمُّلُ مسئولية ذلك، خاصة إذا قل الناصر، وإذا كان المدعوون عتاة في الضلال.

7- قال تعالى: "وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ {28}" (غافر: 28).
والرجولة هنا هي القوةٌ في الدعوة إلى الحق والدفاع عنه، والصدع به أمام سلطان جائر، وكل ذلك بالحجة القوية، والمنطق السليم، والرأي السديد، والثقة في نصر الله تعالى.

8- قال تعالى: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {23}" (يوسف: 23).
والرجولة هنا تتمثل في العفة وصيانة الأعراض وعدم الوقوع في الفاحشة مهما كانت الدوافع ومهما تهيَّأت الأسباب، بل ومهما كانت المُغريات.

ونماذج الرجولة في القرآن الكريم كثيرة، ويكفينا أن نقول أن كل أصحاب الأنفس التقية النقية الورعة وأصحاب العزائم والتضحيات التي ذكرت في القرآن الكريم، هم جميعاً رجال يُشار إليهم بالبنان وعزَّ أن يجود الزمان بمثلهم.

ثالثاً: بعض مواقف الرجولة في صدر الإسلام

إن مواقف الرجولة في تاريخنا الإسلامي كثيرة، بل أكثر من أن تحصى، ويكفينا أن نذكر منها ما يلي:

1- عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: أخْبِرْنِي بأَشَدِّ شيءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بالنبيِّ ﷺ، قالَ: بيْنَا النبيُّ ﷺ يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حتَّى أخَذَ بمَنْكِبِهِ، ودَفَعَهُ عَنِ النبيِّ ﷺ، قالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] الآيَةَ" (صحيح البخاري).

2- ورد في كتاب "فتاوى معاصرة" لفضيلة الشيخ القرضاوي حفظه الله: "أنه في معارك الفتح الإسلامي دخل المغيرة بن شعبة على قائد من قواد الروم، فقال له قائد الروم: "من أنتم؟"، قال: "نحن قَدَرُ الله، ابتلاكم الله بنا، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا!" اهـ.

3- عندما حاصر خالد بن الوليد رضي الله عنه "الحيرة" عام 12 هـ طلب من أبي بكر الصديق رضي الله عنه مَدَدًا، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: "لا يُهزم جيش فيه مثله"، وكان يقول: "لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل".
* جاء في كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي رحمه الله: "فاستمد خالد أبا بكر رضي الله عنه، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي وحده، فقيل أتمده برجل واحد، فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا" اهـ.

4- جاء في كتاب "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال" لعلاء الدين المتقي الهندي: "أن عمرو بن العاص لما أبطأ عليه فتح مصر كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده فأمده عمر بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم رجل وكتب إليه عمر بن الخطاب أني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم مقام الألف‏:‏ الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، واعلم أن معك اثنى عشر ألف رجل، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" اهـ‏.‏

وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …