ما أن تقرأ مطلع سورة القمر... حتى يغشاك الخوف وينتابك الفزع، وكأنّ أمراً جسيماً سيكون، وخطباً جَلَلاً سيحدث....
إنه مشهد اقتراب القيامة واضطراب الكون: (اقْتَرَبَتأِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، و ورود ألفاظ الآية بصيغة الماضي دلالة أنّ الحدث وشيك، فكأنه قضاءٌ وقع، وأمرٌ نفذ.
وسواء كان انشقاق القمر علامة من علامات الساعة أو آية طلبها كفار مكة لتكون دليلاً على صدق النبوة، فكلاهما يؤكد أن الأمر جدٌّ ليس بالهزل، فليستعد كل عامل، ولينتبه كل غافل.
ولعل اسم السورة "القمر الذي يطل علينا في الليل البهيم بنوره وبهائه، إشارة إلى نور القرآن وبهاء الحق الذي يكذّب به المكذّبون، ويُعرض عنه المعرضون، ذلك أن موضوع السورة هو التكذيب والإعراض رغم بيان الحق وقيام الحجة والبرهان (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).
ومن يطوف في السورة من أولها إلى آخرها، يجد نفسه يقلّب صفحات الماضي البعيد، وأنتم يا أهل مكة تعرفون هذا الماضي، فأحداثه شاهدة، وآثاره قائمة، تعرفونها ولا تنكرونها، وتمرون عليها صباح مساء، إنها ما بقي من آثار وأطلال بعد نزول العذاب بمن كفر من الأقوام السابقة، وفي ذلك عبرة خالدة، وموعظة زاجرة (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ).
ويبيّن تعالى أنه ما كان سبب تكذيبهم وإعراضهم إلا اتباع الهوى (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) هذا الهوى الذي سيُبقيهم في غفلتهم حتى يفجأهم يوم القيامة الذي وُصف في أول السورة أنه قريب، وعندها يقفون خاشعين ذليلين، ويكون الحساب عسيرا (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).
ثم تعرض السورة مشاهد العذاب والهلاك المتلاحقة التي حلّت بالأقوام السابقة ولكن ووسط هذا السرد المتتابع للأحداث، تأتي بشارات النصر والنجاة للنبي والمؤمنين.
إن الله لا يقبل أن يُؤذى أنبياؤه، ويُحارب دينه، ويُعذّب أولياؤه، ويمرّ ذلك دون حساب ولا عقاب، فها هو في قصة نوح عليه السلام يقول ربنا – عز وجل – (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).
وتأمل لفظة " عبدنا" وكيف تُشعرك بالمعيّة والعزّة، وكأن الله يقول لنبيه:لا تحزن فإنّنا معك ولن تُغلب فإنّنا سننصرك.
وعند حدوث الطوفان، وحين التقى ماء السماء بماء الأرض، نجّى الله نوحاً ومن آمن معه في الفلك (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ).
وما أجمل قوله تعالى "تجري بأعيينا" وكم تسكب هذه الكلمات في قلبك من الطمأنينة واليقين، حين يشعر المؤمن أن الله معه، يرى مكانه و يعلم حاله، ويحفظه ويؤيده، ولعل هذا هو السبب في وصف الفلك العظيم الذي ركبه نوح ومن معه بأنه مجرّد ألواح من خشب ودسر (أي مسامير) لأن هذه الفلك اليوم لا تجري من تلقاء نفسها، إنما تجري بعناية الله ورعايته، التي تكلأ أنبياءه وتنصر أولياءه.
ثم ترد تباعاً أخبار قوم عاد وثمود ولوط وفرعون، والذين هلكوا بصور شتى من العذاب، الريح في عاد، والصيحة في ثمود، والحاصب في قوم لوط، والغرق في فرعون، كلها إشارات إلى قدرة الله الذي لا يعجزه شيء، والذي أمره كلمح البصر بل هو أقرب، وأن هذا الكون بما فيه مسخر له –" وما يعلم جنود ربك إلا هو "- كما فيه تخويف وتهديد، وإنذار ووعيد لكفار مكة، أن يرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم، ويتّعظوا بمصير من قبلهم وإلا سيصيبهم ما أصابهم، لذا وبعد كل فاصل بين قصص الأقوام الهالكين تتكرر هاتان الأيتان: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وقوله (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) لتقول لهم: ها هو القرآن يقصّ عليكم خبر من قبلكم، فاحذروا عذابي ونذري.
والخلاصة من سرد هذه القصص متتالية وبهذا الزخم من الآيات، تأتي في قوله تعالى (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
أي هم كفار مكة أهون عند الله منهم، ولا يعجزه سبحانه أن يصيبهم بمثل ما أصاب من قبلهم، فما هم بخير منهم ولا هم بأقوى منهم، واللفتة في الآية (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) اشارة الى هزيمتهم يوم بدر، وما ينتظرهم يوم القيامة أشد وأنكى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ).
ويأتي ختام السورة ليؤكد، أن الأمور كلها تسير بقدرة الله وقدره، وأن ما يفعله أولئك الكفار من الكيد والتكذيب، لا يخفى عليه وأنه مكتوب ومسطور، وسيحاسبون به حسابا شديدا، وأما المؤمنون فلهم جنّاتٌ ونهر في جوار ربٍّ ملكٍ مُقتدر.
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).
هذا والله أعلم