فتحت الظروف التي رتبها وباء كورونا المستجد، المجال واسعًا للحديث مجددًا عن العولمة.
فبعد سنواتٍ طويلة تحولت فيها مفاهيم مثل "القرية الأرضية الصغيرة" و"العولمة" إلى بدهيات -حتى في نقاشات العامة وليس في نقاشات المتخصصين فحسب- تعرَّضت هذه المفاهيم والقناعات المرتبطة بها -مثل الانفتاح وحرية الحركة للأفراد ورؤوس الأموال عبر الحدود- إلى اختبار كبير.
نقطة الأزمة الحقيقية، ليست في قضية الغلق الذي فرضته ظروف "كوفيد - 19"، وإنما في جذر الأزمة، وهي أنَّ هذا الانفتاح وهذه الحرية في الحركة، وتحول العالم بالفعل إلى قريةٍ صغيرةٍ، تضم حتى أكثر دول العالم انغلاقًا في الشرق الشيوعي، مثل الصين وكوريا الشمالية، كانت أحد أهم أسباب الوباء.
فهل كانت العولمة بالفعل أحد أسباب انتشار الوباء، وهل كان ترشيدها كما كان رأي الكثير من المفكرين وقت ظهور المصطلح/ الحالة، ضرورةً بالفعل في مصلحة البشرية؟ وهل كانت آراء المفكرين المسلمين على وجه الخصوص في مرحلة نحت وتداوُل المصطلح، في ذلك السياق، من الضروري للعالم الالتفات إليها؟
في هذا الإطار، بين أيدينا كتابٌ مهمٌّ للمفكر الإسلامي المصري، الدكتور خالد أحمد حربي، وهو كتاب (العولمة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي.. دراسة مقارنة).
وأهمية هذا الكتاب في أمرَيْن: الأول/ أنَّ الدكتور خالد، هو في الأصل باحث وأستاذ جامعي، وإصداراته وكتبه في الغالب، تأخذ الطابع الأكاديمي المنضبط علميًّا، وبالتالي فإنَّ القارئ لكتبه سوف يقف أمام لغةٍ رصينةٍ، والأهم أمام محتوىً موضوعي.
الأمر الثاني/ هو توقيت تأليف وصدور الكتاب بين العامَيْن 2007م و2008م، فقد كانت وقتها القضية متفاعلة، وكان هناك الكثير إما من التهميش أو التقليل من رؤية المفكرين والباحثين المسلمين عن العولمة؛ لأنها ترتبط بالأساس، بقضية الحِراك الكبير للحضارة ذات الطابع الرأسمالي - التقني، والذي يدور فيه العالم في فلك الغرب.
مع الكتاب:
الكتاب جاء في صورة دراسة علمية كعادة كتب المؤلف؛ فقد قسَّمه إلى مبحثَيْن أساسيَّيْن، بالإضافة إلى مقدمة، ثم مبحث ثالث فيه نتائج الدراسة، مع ثِبْت بالمصادر والمراجع.
في مقدمته للكتاب، أشار المؤلف إلى مجموعة من القضايا ذات الطابع العام، التي أراد منها إبراز فكرته الأساسية من الكتاب، وهي أن العولمة بصورتها الحالية، إنما هي صورة من صور التغريب، الذي يعني حالةً تمس قيم وأفكار المجتمعات.
وبالتالي فهو يرى أنه من الضروري دخول المفكرين الإسلاميين، وتحرك الحكومات العربية والإسلامية، من أجل توجيه تيار العولمة بالصورة التي تحافظ على هوية مجتمعاتنا، وضمان دمج العرب والمسلمين في حراكها باعتبار أنهم عربٌ ومسلمون.
ويقول المؤلف: "إنَّ ظاهرة العولمة في سياقها المعاصر، تعود إلى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق"، ولكنه يشير إلى أنَّ مفهوم "الأخوة الإنسانية" الذي نهضت عليه الظاهرة، أو سعي بعض القوى إلى فرض هيمنتها، قديمة قِدَمَ الحضارة الإنسانية، وأعادها في أصولها إلى المفكرين والفلاسفة اليونانيين الأوائل، مثل أفلاطون، وإلى فتوحات الإسكندر الأكبر في العالم القديم.
المبحث الأول/ كان عن عالمية الإسلام - كرسالةٍ وحضارةٍ - وقد بدا ذلك حتى في الآيات القرآنية التي اختارها لاستهلال الكتاب، حتى من قبل المقدمة، وتضمنت الآية التي يقول فيها اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
ولكن المؤلف لم يعمَد إلى الأدلة النقلية فقط، التي وردت في القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية حول عالمية الإسلام؛ فقد ألقى بعض الأضواء على ما جاء في كتب السابقين مما يؤكد عالمية الإسلام، مثل شهادة عبد الله بن سلام (أكبر وأهم علماء اليهود وأحبارهم) وقت ظهور الإسلام.
فسرد واقعة قدومه إلى الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - عندما هاجر الأخير إلى المدينة المنورة، وسأله عن ثلاثة أشياء جاءت في كتب اليهود عن النبي الخاتم، الذي سوف يظهر بين ظهراني العرب، وأجاب عنه النبي - عليه الصلاة والسلام.
وبشكل عام، كان هناك تركيز من المؤلف على روايات ومراجع بني إسرائيل التي تؤكد على رسالة محمد بن عبد الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وأنه سوف يُبعَثَ للناس كافة.
وفي هذا المبحث تبدو مركزية حدث الهجرة النبوية إلى المدينة، في تفكير المؤلف عندما أراد تبيان عالمية الإسلام؛ فقد حدد الهجرة كنقطة زمنية بدأت عندها هذه الطبيعة العالمية في الظهور والتحرُّك.
كذلك من المركزيات المهمة التي طرحها للتدليل على ذلك، التصور الإسلامي للإنسانية، والذي يراها في سياقٍ موحَّد العقيدة، وتسوده منظومةٌ واحدةٌ من القيم.
المبحث الثاني من الكتاب/ يدرس العولمة من وجهة النظر الغربية، تناولها المؤلف في أربع محاور أساسية، وهي: العولمة الثقافية، العولمة السياسية، العولمة الاقتصادية، والعولمة الاجتماعية.
ومن بين الأمور التي يرى أنها تميِّز العولمة وفق التصور الغربي: الرأسمالية وحرية حركة الأموال والبضائع في المجال الاقتصادي مثلاً، وقضية حرية تداول المعلومات والتقنيات المساعدة على ذلك، في المجال الثقافي.
كذلك في المجال السياسي: تناول تطبيقات المفاهيم الغربية في السياسة والحكم، مثل الديمقراطية والانتخابات.
لكنه بالغَوص في بعض أفكار الغربيين وفي ممارساتهم لها يقف أمام عوار كبير في العولمة وفق المنظور الغربي؛ فيجد فيها معالم مهمة لتقليص سيادة الدول، والسيادة الفردية للأشخاص، وسحق الهويات الوطنية للمجتمعات، في مقابل الاهتمام أكثر بالمؤسسات والسياقات والسياسات التي تعظِّم من الهدف الأساسي للعولمة وفق المنظور الغربي، وهو تعضيد النفوذ والهيمنة الأوروبية والأمريكية على العالم.
المبحث الثالث/ فيه خلاصات الدراسة ونتائجها، وفيه أكد على عدالة التصور الإسلامي للعولمة، باعتبار مبدأ "الأخوة الإنسانية"، نظير تأكيده على أنَّ التصور الغربي لها غير حقيقي في مزاعمه، وإنما يستهدف تحقيق هدف الهيمنة الغربية على العالم.
مع المؤلف:
المؤلف - واسمه بالكامل: الدكتور خالد أحمد حسنين حربي - هو أستاذ للفلسفة والعقيدة والعلوم الإسلامية بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية، وأكاديمي متخصص في علوم وفلسفة الحضارة الإسلامية وتحقيق التراث المخطوط.
له أكثر من 30 مصنَّفًا في مجال الفكر الإسلامي، وإبراز مساهمات المسلمين في الحضارة الإنسانية قديمًا، وكذلك مناقشة الأفكار والفلسفات القديمة والحديثة ومحتواها من وجهة نظرٍ إسلامية، ولذلك جاءت بعض كتبه في نطاق تصنيف علمٍ لا يزال حديثًا نسبيًّا، وهو "الاستغراب"، أي دراسة الغرب ومفاهيمه وطبائعه المجتمعية والثقافية، مثلما فعل مفكريه مع المسلمين والعالم الإسلامي قديمًا وحديثًا، تحت مسمَّى "الاستشراق".
ووفق هذا المفهوم فإن "الاستغراب" يختلف عن مفهوم "التغريب"، الذي يعني في الأساس: الاتجاه إلى الغرب، والأخذ منه: مفاهيم وأفكارًا، ونمط عيشٍ، وحتى تقليده تقليدًا حرفيًّا.
من أهمِّ كتبه، والتي صدرت بأكثر من لغةٍ، منها الإنجليزية بجانب العربية: "علوم الحضارة الإسلامية وأثرها في الآخر"، و"دور الاستشراق في موقف الإسلام وحضارته"، و"ملامح الفكر السياسي في الإسلام"، و"بنية الجماعات العلمية العربية الإسلامية".
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: د. خالد أحمد حربي
اسم الكتاب: العولمة بين الفكرين الإسلامي والغربي: دراسة مقارَنة
مكان النشر: الإسكندرية (مصر)
الناشر: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر
تاريخ النشر: 2008م
الطبعة: الطبعة الأولى
عدد الصفحات: 161 صفحة