لا بدّ من المرونة في الحياة عامة، وعند التحرك بين مسارات الحياة وطموحاتها خاصة، ولا غِنى عن التحرّر من عُقد التحجر والتشنج لمسارات بعينها ودراما النواح وإسدال الستار على الحياة إذا لم يتحقق طموح طمحتَ له زمنًا، أو هدف أعددت له نفسك فترة، أو ثغرة ظننت أنها ثغرتك حتى حين، وبرغم ذيوع هذه العبارة تظل حقيقية حقًا: "إنها ليست نهاية العالم"، والأهم أنها ليست نهاية حياتك ولا أوان حسابك بعد، ففيم تَقبُر نفسك قبل أوانها وتنهي عُمرًا أنت المحتاج لأنفاسه في ميزان عملك يوم لا ينفعك قول "ربِّ ارجعون "؟!
تأمل في هذه القصة المأثورة عن سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة، فانطفأ السراج وكان الغلام الخادم قد نام، فكره سيدنا عمر أن يوقظه، فقال ضيف: {"يا أمير المؤمنين، لو أذنتَ لي أصلحتُه" فقال سيدنا عمر: "إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه" ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه، وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح، وأشْخص الفَتيلة، ثم رَجع، فأظهر الضيوف الحرج وقالوا: "يا أمير المؤمنين! كنا نكفيك!" فأجاب: "وما ضَرَّني؟ قُمتُ وأنا عمر ورَجَعتُ وأنا عمر"} [ابن الجوزي - "سيرة عمر بن عبد العزيز"].
ولعلك تسأل ما وجه الاستشهاد بهذه القصة هنا؟ الوجه هو جمالية تلك المقولة الختامية: "قمتُ وأنا عمر ورجعتُ وأنا عمر"!
إنك حين تتعلم كيف تحيا رحلة الحياة بوصفها رحلة في كل خطوة قيمة وقتها، وكيف تسعى سعي عبد وتتأدب مع ربك أدب عبد وتبتغي وجهه ابتغاء عبد... حين تتعلم إسلام الحياة وحياة الإسلام على وجهها، ستجد أنك صرت في نفسك شخصًا وكِيانًا راسخًا، لا تقف قيمته وجدوى وجوده على تحقق سياقات وأحوال بعينها، بل هو الذي يضفي على ما يوقفه الله فيه القيمة من مَعدِن ذاته، ويبعث أينما جعله الله الجدوى من أصالة نفسه، فهذا هو عامل الثبات في المعادلة، وقد يمارس شخصان نفس العمل وتختلف جدواه عند كل منهما بحسب ما في نفسيهما هما، وتتباين قيمته من كل منهما بحسب ما يضيفانه بنفسيهما هُما.
قد يمارس شخصان نفس العمل وتختلف جدواه عند كل منهما بحسب ما في نفسيهما هما، وتتباين قيمته من كل منهما بحسب ما يضيفانه بنفسيهما هُما
ومن صور المرونة كذلك حين لا تجد لميولك وهواياتك مجال اشتغال تتكسب منه وأنت بحاجة للكسب، أن تعمل في مجال مغاير تتكسّب منه، وتسعى بالتوازي في شقّ طريق بنفسك في مجال ميلك، أو تحتفظ به هواية وترويحًا، أو تستعين بعلمك فيه للتقدّم في مسار آخر، أو غير ذلك من خيارات السعي والحركة.
القصد ألا تتحجّر في دائرة الميل والشغف بما يُقعِدك في مكانك مخذولًا عاجزًا كاسف البال لعدم توافق واقع المحيط مع واقع نفسك ، بل اجعل دليلك في الحياة وصية نبيّنا المصطفى عليه الصلاة والسلام: {احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعلَ، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيطانِ} [مسلم].فاجتهد في شقّ طريقك في واقع محيطك بواقع نفسك، وساير واقع محيطك حيث احتجت أو بدت مصلحة دون أن تحطّم واقعك في نفسك، وأيقن أنّ الله تعالى يفتح لك آفاقًا من حيث لا تحتسب، و حَسبُك أيها المؤمن ضمانًا واطمئنانًا في سعيك كله أن تلزَم أمر الله حيث كنتَ، وأن تعلم أنك تتحرك مِن قَدَر الله إلى قَدَر الله ، فالله متولّيك بالتوفيق والهداية والكفاية والوقاية.