إن الشرع يُحتِّم على كل مسلم أن يُخفِض جناحه، ويطأطيء رأسه، ويتكلم همساً وأدباً إذا أراد الحديث مع أمه التي ولدته، فما بالنا إذا أراد الحديث عن واحدة من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين!! فالأدب في هذا المقام فرض، والتواضع عبادة، ومَدْحِهِنَّ بما مَدَحَهُنَّ الله تعالى به واجب.
حقيقة لا أدري هل عندما يُفكر من هو مثلي أن يكتب عن بعض مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، هل يٌعد ذلك تطاولاً منِّي، أم رضا من الله تعالى عنِّي!
إنني أوقن تمام اليقين أن مناقب السيدة عائشة رضي الله عنها لا يستطيع أن يسبر غورها إنسان مهما أوتي من علم، ولكني آثرت أن أدلو بدلوي في هذا الموضوع طمعاً في الأجر والثواب، الله تعالى أسأل أن يكون ذلك رضاً منه سبحانه عني، وأسأله سبحانه توفيقاً وسداداً وتأييداً وقبولاً لـ (عُبيد) يعرف حدود نفسه ويُقر بتقصيره، ويسأل الله تعالى المغفرة والستر والعفو والعافية.
كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: "حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ" (البداية و النهاية لابن كثير).
1- من هي السيدة عائشة رضي الله عنها
هي أم المؤمنين عائشة بنت صدِّيق هذه الأمَّة أبي بكر، أمها أم رُومان بنت عامر بن عُوَيمِر الكنانيَّة، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة وعن أبويها.
أما بالنسبة لإخوة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهم: عبدالرحمن، وعبدالله، وأسماء، ومحمد، وأم كُلثوم. وجميعهم من خيرة المسلمين الذين حسُن إسلامهم وهاجروا وجاهدوا مع رسول الله ﷺ.
ولدت عائشة رضي الله عنها في الإسلام ولم تدرك الجاهلية.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "لَمْ أعْقِلْ أبَوَيَّ إلَّا وهُما يَدِينَانِ الدِّينَ..." (صحيح البخاري).
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تكنَّى بـ "أم عبدالله"، ويلتقي نسبها مع النبي ﷺ في مُرة بن كعب.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت لِلنَّبيِّ ﷺ: "يا رَسولَ اللهِ، كُلُّ نِسائِكَ لها كُنيةٌ، غَيري. فقال لها رَسولُ اللهِ ﷺ: اكتَني أنتِ أُمَّ عَبدِ اللهِ. فكان يُقالُ لها: أُمُّ عَبدِ اللهِ، حتى ماتَتْ، ولم تَلِدْ قَطُّ" (تخريج المسند بإسناد صحيح).
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بيضاء جميلة، وهذا هو سبب تسمية السيدة عائشة بالـ "حُميْراء"، فالحُميرْاء هي البيضاء.
قال ابن حجر في الفتح: "والعرب تطلق على الأبيض الأحمر كراهة اسم البياض لكونه يُشبه البرص ولهذا كان ﷺ يقول لعائشة يا حميراء" اهـ.
كان جسمها رضي الله عنها قليلاً وبعد الزواج بفترة زاد جسمها.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "كانَت أمِّي تعالِجُني للسُّمنةِ، تريدُ أن تُدْخِلَني على رسولِ اللَّهِ ﷺ: فما استقامَ لَها ذلِكَ، حتَّى أَكَلتُ القثَّاءَ، بالرُّطَبِ، فسَمِنْتُ، كأحسَنِ سِمنةٍ" (صحيح ابن ماجه).
2- زواج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مُسمَّاةً لجبير بن مطعم بن عُدي، فخطبها رسول الله ﷺ بعد أن سلَّها أبوها من أهله لإصراره على الكفر.
"فأتى أبو بَكرٍ المطعمَ فقالَ ما تقولُ في أمرِ هذِهِ الجاريةِ. قالَ فأقبلَ على امرأتِهِ فقالَ لَها ما تقولينَ فأقبلت على أبي بَكرٍ فقالت: لعلَّنا إن أنْكحنا هذا الفتى إليْكَ تُصبئْهُ وتدخلْهُ في دينِكَ فأقبلَ عليْهِ أبو بَكرٍ فقالَ: ما تقولُ أنتَ؟ فقالَ: إنَّها لتقولُ ما تسمعُ فقامَ أبو بَكرٍ وليسَ في نفسِهِ منَ الموعدِ" (تاريخ الإسلام للإمام الذهبي بإسناد حسن).
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النبيِّ ﷺ إلى المَدِينَةِ بثَلاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أوْ قَرِيبًا مِن ذلكَ، ونَكَحَ عائِشَةَ وهي بنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بها وهي بنْتُ تِسْعِ سِنِينَ" (صحيح البخاري).
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ثالث زوجات النبي ﷺ، وإحدى أمهات المؤمنين، ولم يتزوج النبي ﷺ امرأة بكرًا غيرها، وكانت أحب زوجات النبي ﷺ إلى قلبه حيث أريها ﷺ في المنام مرتين قبل أن يتزوجها.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّ النبيَّ ﷺ، قَالَ لَهَا: "أُرِيتُكِ في المَنَامِ مَرَّتَيْنِ، أرَى أنَّكِ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ، ويقولُ: هذِه امْرَأَتُكَ، فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هي أنْتِ، فأقُولُ: إنْ يَكُ هذا مِن عِندِ اللَّهِ يُمْضِهِ" (صحيح البخاري).
* سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ: قطعة مِن حَرِيرٍ.
3- حب النبي ﷺ لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وثنائه عليها
أثنى النبي ﷺ على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقال: " كَمَلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ" (صحيح البخاري).
كانتْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أحبَّ أزواج رسولِ الله ﷺ إليه.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه "أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ، بَعَثَهُ علَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قالَ: عَائِشَةُ قُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قالَ أَبُوهَا قُلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: عُمَرُ فَعَدَّ رِجَالًا" (صحيح مسلم).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "إنْ كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ لَيَتَعَذَّرُ في مَرَضِهِ: أيْنَ أنَا اليَومَ، أيْنَ أنَا غَدًا اسْتِبْطَاءً لِيَومِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كانَ يَومِي، قَبَضَهُ اللَّهُ بيْنَ سَحْرِي ونَحْرِي ودُفِنَ في بَيْتِي" (صحيح البخاري).
4- عدل النبي ﷺ بين زوجاته
بالرغم من حب النبي ﷺ للسيدة عائشة رضي الله عنها، إلا أنه ﷺ لم يتهاون في أمر الله ولم يَحِد عن الحق في القسمة بينها وبين باقي زوجاته رضي الله عنهن أجمعين.
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه: "قالَت عائشَةُ: يا ابنَ أُختي كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ لا يفضِّلُ بعضَنا على بعضٍ في القَسْم، من مُكثِهِ عِندنا، وَكانَ قلَّ يومٌ إلَّا وَهوَ يطوفُ علينا جميعًا، فيدنو مِن كلِّ امرأةٍ من غيرِ مَسيسٍ، حتَّى يبلغَ إلى الَّتي هوَ يومُها فيبيتَ عندَها..." (سنن أبي داود).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّه ﷺ كان يقسِمُ بين نسائهِ فيعدلُ ويقولُ: "اللَّهمَّ هذا قَسمي فيما أملِكُ، فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ" (رواه ابن الملقن في البدر المنير بإسناد صحيح).
* ومعنى قوله ﷺ: (فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ) أي الحب والمودة القلبية.
5- فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: "يا عائِشَ، هذا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ فَقُلتُ: وعليه السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، تَرَى ما لا أرَى تُرِيدُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ" (صحيح البخاري).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "فضلت على نساء النبي ﷺ بعشر، قيل: ما هن يا أم المؤمنين؟ قالت: لم ينكح بكراً قط غيري، ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله عز وجل براءتي من السماء، وجاءه جبريل بصورتي من السماء في حريرة، وقال: تزوجها، فإنها امرأتك، فكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه غيري، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، ولم يكن يفعل ذلك بأحد من نسائه غيري، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، ولم يكن ينزل عليه وهو مع أحد من نسائه غيري، وقبض الله نفسه وهو بين سحري ونحري، ومات في الليلة التي كان يدور علي فيها، ودفن في بيتي" (الطبقات الكبرى لابن سعد).
* بين سَحْري ونَحْري: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري): "وَالسَّحْر: هُوَ الصَّدْر، وَهُوَ فِي الْأَصْل الرِّئَة. وَالنَّحْر: الْمُرَاد بِهِ مَوْضِع النَّحْر (أسفل الرقبة)" اهـ.
قال الإمام أبو الوفا ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: "انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب".
وقد توفي عنها النبي ﷺ وهي في الثامنة عشرة من عمرها.
6- علم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفقها
إن علم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بحرٌ لا يُثبر قعرُه ولا تُرى شطآنه، وعُبابٌ لا تُكدِّره الدِّلاءُ، وسحاب تتقاصر عنه الأنواء، ومرجعًا صافياً رقراقاً يُرجَع إليه في مسائل العلم الشائكة فينهمر منه العلم الذي يُرشد الضال ويسكن به الحيارى.
ولما لا!! وهي رضي الله عنها من أكثر رواة الأحاديث النبوية، وقد عدّ الذهبي أحاديث عائشة 2210 حديث.
قال الحاكم في المستدرك: "إنَّ رُبْعَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ نُقِلَت عَن السَّيِّدَة عَائِشَة".
وقال الزُّهري رحمه الله: "لو جُمِع علم نساء هذه الأمة، فيهن أزواج النبي ﷺ، كان علم عائشة أكثر من علمهنّ" (رواه الطبراني).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " ما أشكَل علينا - أصحابَ رسولِ اللهِ ﷺ - حديثٌ قطُّ فسأَلْنا عائشةَ إلَّا وجَدْنا عندَها منه عِلْمًا" (سنن الترمذي).
وعن عُروةَ بن الزبير رضي الله عنه قال: "ما رأيْتُ امرأةً أعلمَ بطبٍّ ولا بفقهٍ ولا بشِعرٍ مِن عائشةَ" (مجمع الزوائد بإسناد حسن).
وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن رضي الله عنه قال: "ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بسُنن رسول الله ﷺ ولا أفقهَ في رأي إن احتُيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلتْ، ولا فريضة - مِن عائشة".
من أسباب المكانة العلمية لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
• شدة ذكائها، وقوة ذاكرتها.
• زواجها من النبي ﷺ في سن مبكرة وملازمتها له ﷺ إلى أن توفاه الله تعالى.
• كثرة ما نزل من الوحي في حُجرتها.
• رغبتها في التعلم، فكانت رضي الله عنها لا تسمع أمراً تستشكله، إلا وتستفسر عنه.
7- فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في القرآن الكريم
أنزل الله تعالى الآيات (11:26 من سورة النور) في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ليُبَرِّئها من فوق سبع سماوات مما ادَّعاه الأفاكون المنافقون وليحكم بطهرها وعفتها وتقواها ورضاه عنها وليبشرها بالجنة.
قال تعالى: "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {26}" (النور: 26).
قال ابنُ كثير رحمه الله: "فغار اللهُ لها وأنْزَلَ براءتَها في عشْر آياتٍ تُتلى على الزمان، فسَمَا ذِكْرُها، وعلا شأنُها؛ لتسمعَ عفافَها وهي في صِباها، فشَهِدَ الله لها بأنَّها مِنَ الطَّيِّبات، ووعدَها بمغفرةٍ ورِزق كريم".
كما قال في تفسير قوله تعالى: (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): "أي عند الله في جنات النعيم. وفيه وعد بأن تكون زوجة النبي ﷺ في الجنة" اهـ.
وقدْ أجْمَع علماءُ الإسلام على أنَّ مَن سبَّ أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ورَماها بما برَّأها الله منه أنه كافِرٌ.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف - عليه السلام - لما رُمِي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لَـمَّا رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى - صلوات الله عليه - وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله - تعالى - بالقرآن؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان" (الجامع لأحكام القرآن).
قال ابن العربي رحمه الله: "إن أهل الإفك رموا عائشة المُطهرة بالفاحشة، فبرَّأها الله، فكل من رماها بما برأها الله منه فهو مُكذِّب لله، ومن كذب الله فهو كافر" اهـ.
وقال الزمخشري: "ولو فليت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به من العصاة، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة" اهـ.
وللحديث بقية في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى