كانت فترة الساعات القليلة التي تعطَّلتها مؤخرًا بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتحديد تلك المرتبطة بمجموعة "فيسبوك" الأمريكية العملاقة، مجالاً لفتح الكثير من مساحات النقاش، ذات الطابع الاجتماعي والنفسي.
وخرجت الكثير من التعليقات والمقالات، التي تناولت أثر هذه النوعية من وسائل التواصل والاتصال على حياتنا الشخصية والعامة، وتباينت وجهات النظر حول مدى إمكانية الاستغناء عنها، والعودة إلى مرحلة ما قبل ظهورها.
وهنا ثَمَّة من توضيح مهم. فمواقع التواصل الاجتماعي، مثل "تويتر" و"فيسبوك" و"أنستجرام"، أمر مختلف عن مواقع الاتصال الاجتماعي، والتي تمثلها "الواتس" و"التليجرام".
فالمجموعة الأولى من المواقع الإلكترونية، هي تطوير للمدونات الشخصية الـ"Blogs" والمنتديات الإلكترونية (الأقرب إلى مجموعات "جروبات" الفيسبوك حاليًا)، التي كانت اللبنة الأولى في مثل هذه النوعية من المنصات، بينما المجموعة الثانية، "الواتس" ورفاقه، هي الصورة الأحدث من أدوات الاتصال في الهواتف المحمولة، مثل الاتصال المرئي، والرسائل النَّصِّيَّة.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنه أيًّا كانت التفاصيل الفنية المتعلقة بهذه المنصات؛ فإنه بات من المستحيل تقريبًا تجاوزها. على الأقل بشكل كامل.
وأهم ما يجب النظر من خلاله إليها، هو أنها ليست كيانًا منفصلاً يتحرك بمعزلٍ عن التطورات الحاصلة في سياقات عديدة من أنماط حياتنا البشرية، ولذلك، فهي صارت أمورًا معتمدةً حتى عند الحكومات في أمورٍ كثيرةٍ، بما في ذلك تأشيرات السفر والوصول، ودخول البلاد المختلفة، وأساسًا لابد من وجوده في التواصل بين الحكومات والمواطنين، بالإضافة إلى أنها أداة لا يمكن الحديث عن التخلي عنها في مجال العمل.
فمجموعات "الواتس"، و"الفيسبوك"، صارت هي الوسيلة الوحيدة المعتمدة في الكثير من المدارس والشركات ودور النشر، وغيرها من المؤسسات لإدارة عملها، والاتصال مع العملاء وأولياء الأمور، وغير ذلك من صور الأنشطة المختلفة.
ولن نتكلم هنا عن تحول "يوتيوب" و"فيسبوك" و"تيك توك" وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي وتحميل المحتوى المرئي، إلى وسيلة كسب عيش، باتت ضمن قوائم الأنشطة المستحِقَّة للضرائب من جانب بعض الحكومات، وهو أهم صور اعتراف الحكومات، التي كانت منذ سنوات قليلة، لا تعترف بهذه الوسائط من الأصل، وتراها مجرد وسيلة تضليل وتغلغل في مجتمعاتها!
وفي مجال الكتابة والصحافة؛ صارت هذه المنصات إما مصادر أخبار جديدة، أو وسيلة نشر أسرع بكثير حتى من القنوات الفضائية، وتصل بالقارئ إلى نوعية من الأخبار شديدة التخصص والمحلية، كان لا يمكن الوصول إليها في الماضي، بسبب القيود الحكومية، أو بسبب عدم وجود أداة متابعة، لكن "صحافة المواطن" أوصلت المصدر الإخباري إلى أعماق الأزقة والقرى البعيدة.
وبالتالي؛ فإن الحديث عن فكرة الاستغناء عنها؛ بات من الماضي؛ حيث أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من ترتيباتنا الحياتية، الخاصة والعامة، ولا يمكن التغافل عنها.
والأمر يشبه بعض رجال الأعمال المسلمين الذين يؤمنون بأن فوائد البنوك التجارية، هي فوائد ربوية مُحرَّمة، وبالتالي؛ فهم لا يتعاملون معها، ولكنهم عندما حاولوا تجاوز المنظومة المصرفية في بلدانهم وبلدان العالم الأخرى التي يتعاملون مع وكلاء وعملاء فيها؛ لم يستطيعوا تسيير أعمالهم، ولذلك اضطروا إلى التعامل مع البنوك في موضوع التحويلات واستخراج خطابات الائتمان؛ لأن البنوك التجارية، ولاسيما الحكومية منها، هي نقطة مرور إلزامية حاكمة في مثل هذه الأمور.
المهم. قد يمكن الحديث عن التقليل من الوجود الترفي على "فيسبوك"، أو تقليل الوقت الذي يقضيه الأبناء مع الألعاب الإلكترونية، لكن الحديث عن التخلي التام عنها؛ أمرٌ يحمل رؤية تنتمي إلى المدرسة الرومانسية الخيالية في تقدير الأمور.
لكن ليس هذا هو الأمر الأهم فيما أثاره "الحَدَث العالمي الكبير" الخاص بانقطاع وسائل التواصل والاتصال الاجتماعي الأهم – شَمِلَ الأمر جوجل وأمازون وتيك توك – فالقضية ربما أخطر وأعمق من ذلك. فتوقف مواقع التواصل والاتصال الاجتماعي، قد يربِك الموقف قليلاً، لكنه لو استمرَّ – أي هذا التوقُّف – لفتراتٍ طويلةٍ؛ سوف تبدأ الحكومات وإدارات الشركات والأفراد في الاستغناء التدريجي عنها، والبحث عن بدائل.
تتعلق القضية الأهم هنا، بما تواتر من شائعات – ربما كان كلام وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) هو الأهم في هذا الصدد – حول أن هذا السقوط المفاجئ لهذه المنصات – لم تقدم شركة "فيسبوك" تفسيرًا مُقنِعًا للآن بشأنه – نتج عن اختراقات إلكترونية.
وهذا أمرٌ ربما يبدو بعيدًا عن ذهنية وتفكير المواطن العادي في العالم العربي، ولكنه أمرٌ على أكبر قدر من الأهمية في مجال الأمن القومي للدول الغربية، وهو من بين أهم المهددات الموضوعة على رأس قائمة أجندات الرصد والمتابعة والوقاية.
فلم تعُد كُتَيِّبات الحرب ومدونات الأمن القومي في دول العالم الغربي الرأسمالية، ولاسيما دول التحالف الأنجلو أمريكي، تضم تلك النظرة التقليدية للمهددات، مثل الحرب النووية والتهديدات الصاروخية بعيدة المدى. نعم، تظل هذه المهددات موجودة، ويتم التعامل معها بالشكل الملائم، ولكن قائمة الأولويات، باتت مختلفة.
ونسمع بين حين وآخر، اتهامات أمريكية للصين وروسيا بالقيام بهجمات سيبرانية على مصالح أمريكية وغربية، أو أن هذا الأمر قد أخذ جانبًا كبيرًا من محادثات بين الرئيسين الأمريكي والروسي، أو الأمريكي والصيني، وهكذا.
ومبدئيا، يجب إدراك أمرَيْن في هذا الصدد؛ الأول، أن السلوك الصيني والروسي، أو من جانب كوريا الشمالية، يشمل الأمر أمورًا على أكبر قدر من الأهمية، وتمثِّل قضايا أمن قومي حقيقية، بالنسبة للتحالف الغربي، مثل التأثير على انتخابات الرئاسة والكونجرس في الولايات المتحدة، وإحداث ضرر في عمليات تشغيل المفاعلات النووية ومحطات الطاقة الحرارية، ووسائل الرصد والتتبع الجوي، ومصالح وزارات الدفاع، والتأثير على البورصات، وخصوصًا في بريطانيا والولايات المتحدة.
أي أنه لو نجحت بعض من هذه المحاولات؛ فإن ذلك قد يقود إلى تدمير لذاتي لدول بأكملها. فلنتصور نجاح محاولات صينية أو روسية لإرباك منظومة العمل في مفاعل نووي، أو في محطة للطاقة الحرارية، أو للصواريخ النووية، وتم إطلاق أحدها فقط بطريق الخطأ إلى السماء من دون توجيه؟!.. وقتها سوف يبدأ إلى العودة إلى نقطة إطلاقه بعد نفاد وقوده، وهو ما يعني إفناء مدينة بالكامل "بالخطأ"!
الأمر الثاني، وهو الأهم، والذي يشمل كل ما دونه من أمورٍ فنية وتكتيكية، هو أن هذا السلوك من جانب منظومة "الرفاق" الشيوعيين السابقين والحالين، في الصين وروسيا وكوريا الشمالية، إنما هو جزءٌ من سياسات قوى التدافع الشرقية هذه ضد التحالف الأنجلو أمريكي، ومحاولات تعطيل منظومة الرأسمالية.
وقضية سيرورة/ تعطيل منظومة الرأسمالية العالمية، هي واحدة من أكثر صور الصراعات الدموية في تاريخ الإنسانية، بخلاف ما قد يتصوره البعض من أنها قضية تندرج تحت بند الفكر السياسي أو ما شابه.
فمنظومة الرأسمالية العالمية، ترتكن بالأساس إلى مبادئ أربع أساسية، وهي حرية انتقال ثلاثة من عناصر الإنتاج الأربع، وهي المال، والمنتجات المُصنَّعة والمواد الخام، وعنصر العمل [العنصر الرابع، هو عنصر الأرض وما فوقها من أبنيةٍ، وهي تندرج تحت بند المال أو رؤوس الأموال غير القابلة للانتقال، أو المال غير المنقول].
وبمراجعة سريعة للتاريخ الإنساني، سوف نقف أمام حقيقة أن الاستعمار الغربي في العالم القديم، ثم في الأمريكيتَيْن وأستراليا بعد اكتشاف هذه القارات الثلاث، والذي – أي الاستعمار – بدأ بحركة الكشوف الجغرافية؛ تسبب في مقتل مئات الملايين من الرقيق الذين تم استعبادهم للخدمة في مزارع ومصانع المنظومة الرأسمالية وسكان البلدان الأصليين في المناطق التي تم استعمارها، في العالمَيْن القديم والجديد، من أجل إخلاء المناطق الغنية بالثروات المعدنية والمناطق الزراعية الأهم، منهم.
ومن بين الأرقام البشعة في هذا الصدد، أن تقديرات تشير إلى أن 150 مليون أفريقي ماتوا من الفاقة والمرض والتعذيب والسخرة سواء في عملية نقلهم من مناطقهم في القارة السمراء إلى بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ومثلهم من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية وحدها، تم قتلهم لإخلاء مناطقهم.
وفي عصرنا الحالي، كثيرٌ من الحروب الأهلية التي يذهب ضحيتها مئات الآلاف، بل الملايين، ويتم فيها تدمير مدن وبلدان بالكامل، إنما تقف وراءها هذه القوى لتحقيق ذات الأهداف القديمة، وبالذات الحصول على المواد الخام، بالذات النادرة منها، كما في وسط وغرب أفريقيا، أو لردع نظام وطني ظهر هنا أو هناك، يحاول أن يستغل ثروات بلاده من أجل مصالحه شعبه، كما حصل في إندونيسيا وأمريكا الوسطى واللاتينية.
الحرب العالمية الثانية نفسها، كانت في جانب منها، بمثابة ردة فعل من جانب قوى مثل ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية على حركة الاستعمار الغربي الذي أساسه كان ترسيخ مصالح الرأسمالية.
وبعيدًا عن غبشة التأريخ الغربي لهذه الحرب، ولو أننا جنَّبنا التحليل، جرائم اليابان وألمانيا النازية في آسيا وأوروبا على الترتيب؛ فإننا سوف نقف أمام حقيقة مهمة، وبالذات في حركة القوات اليابانية في الشرق الأقصى؛ حيث استهدفت مناطق النفوذ والاستعمار البريطاني والأمريكي والفرنسي والهولندي هناك، وكان جانب من الجرائم التي جرت هناك، ضد الشعوب والقوى التي ساندت المستعمِر الغربي هناك.
انتهت الحرب العالمية الثانية بخريطة قوى جديدة كان يحكم تفاعلاتها وصيروراتها العامل النووي، ثم انتهت الحرب الباردة بقناعةٍ مهمة من جانب القوى الجديدة الصاعدة مثل الصين وروسيا – وريثة الاتحاد السوفييتي السابق – استفادوها من الحرب الباردة، وهي أنه قد انتهى زمن المواجهات المباشرة.
لذلك تمَّ البحث عن أساليب جديدة تقف بها هذه القوى في وجه غول الرأسمالية المتوحِش، فكان هناك اتجاهان. الأول، وساندته القيادات الجديدة في الصين بعد المرحلة الماوية الصرفة، وهي استغلال قدرات الصين ومواردها الطبيعية والبشرية للسيطرة على منظومة الإنتاج والتجارة الرأسمالية، وهذا نجحوا فيه، وأقنعوا الروس به في العقد الأول من الألفية الجديدة، ونتائجه واضحة للعيان؛ حيث الصين هي المنتِج والمصدِّر الأكبر في العالم، وأهم دائن للولايات المتحدة، معقل الرأسمالية العالمية، ورمزها الأهم.
الاتجاه الثاني، هو توظيف التقنيات الحديثة من أجل تعطيل منظومة الرأسمالية العالمية، مثل الإخلال بقواعد بيانات المصارف والبورصات، أو إحداث مشكلات في العملية الانتخابية بما يبرِز أسماء تريد قوى التدافع في العالم الشرقي لها أن تبرز في مراكز صناعة القرار في الدول الغربية، وبالذات بريطانيا والولايات المتحدة، ثم فرنسا بدرجة أقل، أو التشويش لدى الرأي العام في هذه البلدان، على شخصيات وقوى تبدو بالنسبة لموسكو وبكين وبيونج يانج، وفي الخلفية طهران، غير مرغوب في وجودها في مراكز صناعة القرار.
لكن بعض هذه الألعاب، خطرة بالفعل، كما تقدَّم؛ حيث إن بعضها قد يقود إلى حالة من التدمير الذاتي لدول بالكامل، من دون تحديد طبيعة الطرف الذي يتحمل مسؤولية ذلك.
تبقى نقطة شديدة الأهمية في هذا كله؟!.. أين نحن كعرب ومسلمين من هذا؟!.. للأسف؛ نحن مستهلِكون لا أكثر، ونتأثر ولا نؤثِّر، وبديهي أن هذا الوضع المؤسف؛ ينبغي البحث عن كيفية علاجه، من خلال ترتيب عناصر قوتنا، والبحث عن بدائل، نقول فيها بأعلى أصواتنا: نحن موجودون، وفاعلون!..