لقد قامت الحياة الدنيا -منذ أن قامت- على التحدي التاريخي من الشيطان لله بعدم سجوده لآدم، ثم بتحديه التاريخي الأكبر عندما قرر أن يكرس حياته لإغواء آدم وذريته، حين طلب أن ينظِره الله؛ كي يُثبت لله تعالى أن آدم وذريته لم يكونوا يستحقون كل هذا التكريم، الذي وصل لرفعتهم على الملائكة وعُبّاد الجن الذين كان إبليس على رأسهم.
ومنذ ذلك التحدي التاريخي الأكبر، نستطيع أن نقول إن هناك معركة حامية الوطيس بين الشيطان من ناحية، وبين من يؤمن بالله من ناحية أخرى متمثلًا في آدم وذريته، والله في هذه المعركة مطّلع، لا يتدخل فيها، فالشيطان أعلن الحرب بذريته على آدم وذريته الذين خلقهم الله وكرمهم، فترك الله ساحة المعركة، لينتصر فيها من ينتصر، ويخسر فيها من يخسر، ثم يكون المصير والمآل إليه يوم القيامة، ليحكم حينها بينهم، ويأخذ لكل ذي حق حقه.
لم يترك الله المعركة عجزًا منه كما يقول بعض الملاحدة، ولم يتركها نسيانًا لها ولا انشغالا عنها، فحاشى لله أن يكون نَسيّا، أو أن يشغله شيء عن شيء، وهو مطلق العلم والقدرة، ولكنه سبحانه وتعالى ترك هذه المعركة؛ لأنها لن تدور رحاها إلا إذا تركها، فلو تدخل الله لأنهاها منذ أولها، أو لمنع حدوثها ابتداءً، ولكنْ لما طلب الشيطان منه أن يمهله، وتحدى بأن يغوي آدم وذريته، أعطاه الله ما أراده، ثم بيّن لآدم وذريته حقيقة الصراع، وأنزل عليهم أنبياءه وشرائعه تترى، لتكون لهم العاصمة من إغواء الشياطين ووساوسهم، ثم أعطاهم أسلحة لا تقوى الشياطين عليها، بل وتفر أمامها فرار المهزوم المذعور، وهي أسلحة عبادة الله وذكره وقرآنه.
وكلما وجد الإنسان حربًا من الشيطان عليه، وجد أسلحة الله التي وهبها له أسلحة نافذة عاملة حاسمة، لا يقوى الشيطان أمامها، بل إن الله كتب على كيد الشيطان أن يكون ضعيفا، وأثبت ذلك في كتابه بقوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، لكن كيده لا يكون ضعيفا إلا إذا كان في مقابله خصم قوي بالله وبأسلحته التي بعثها له، عبادةً وذكرا وقرآنا.
نعود ونقول: مهزومون نحن المسلمون في كل معاركنا، معاركنا مع أنفسنا ومع الشياطين، وكذلك مع أعدائنا البشريين في الشرق والغرب والشمال والجنوب".
ثم ندعو الله لكي ينصرنا، وهو الذي أثبت لنا قانون نصرته ومعيته في كتابه إذ يقول: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
فإذا أردنا نصر الله لنا، في كل معاركنا مع النفوس والشياطين والأعداء البشريين، فلا بد أن ننصر الله أولا، ونصرنا لله يكون بالإقبال عليه عبادة وذكرا وقرآنا، وحينها يتأتى لنا عون الله ونصره، بتقويتنا على أنفسنا، وبإدبار شياطيننا عنا وعدم تسلطها علينا، ثم بدعم الله لنا وإنزال معيته علينا في معاركنا مع العدو البشري هنا وهناك.
نعود لمشهد التحدي من الشيطان لربه، وكيف نساعده حتى يكاد يكسب تحديه، ولولا أن الله كتب عليه الفشل في هذا التحدي، بعفوه المُقدّم عن بني آدم، ومغفرته المؤخرة لهم بعد كل ذنب إن هم تابوا واستغفروا، لكسب الشيطان تحديه بلا شك؛ لأن الحقيقة أن بني آدم يخطئون في كل يوم، بل وفي كل ساعة، ومع ذلك لم يطردهم الله طردًا نهائيا من رحمته كما فعل مع الشيطان، فلماذا؟!
في مسلسل مصري عُرض سابقًا بعنوان (ونوس)، مثّل فيه الممثل المصري (يحيى الفخراني) دور الشيطان، متجسدا في صورة إنسان، يوسوس لأفراد أسرة من الأسر، حتى يوقعهم جميعا في الخطيئة، فيهرب رب الأسرة من البداية، ثم يعود في نهاية المسلسل لأسرته، وتعود الأسرة لتجمتع، وكلٌّ منهم نادمٌ على سقطاته وخطاياه.
وهنا يبرز الشيطان في مشهد ختامي للمسلسل، وهو يصرخ ناظرا للسماء مخاطبا الله، ويقول بالعامية المصرية ما معناه بالعربية الفصيحة: لماذا تفعل ذلك، أنا أخطأت خطيئة واحدة، فطردتني وحكمت عليّ باللعن، وهو يخطيء كل يوم، ويرجع لك فتقبله... لماذا تفعل له ما لم تفعله معي؟!
والحقيقة طبعًا، أن الله لم يظلم الشيطان، ولكنه حكم عليه باللعن؛ لأنه تحدى الله بذنبه، وأصر عليه، ولم يعُد لله مستغفرا تائبا.
أما آدم عليه السلام، فلما أن أذنب أحس بانكساره أمام الله، وعاد لله مستغفرًا تائبًا، وتقبل عقاب الله له بإخراجه من الجنة، بنفس عبدٍ مؤمنٍ مذنبٍ مستغفرٍ، لا بنفس متكبر متحدٍ مصر على ذنبه كما فعل الشيطان.
أهم ما يريد هذا المقال أن يشير إليه، هو أننا/ نحن البشر، لم ننصر الله أمام الشيطان، وساعدنا الشيطان في تحديه، بانجرارنا وراء وسوساته.
حتى تحول البشر في مجملهم إلى شياطين بشرية، فالغالبية الكبرى من بني آدم أتباع أديان سماوية محرفة أو بشرية مخترعة أو ملحدون بالكلية.
والمؤمنون بالدين الحق، أهل الإسلام، هم أقلية في دنيا الناس، والمتمسكون منهم بدينهم هم أقلية من الأقلية، والمتمسكون تمسكا تاما هم أقلية من أقلية الأقلية.
الشيطان في الحقيقة منتصر في تحديه، وليست هزيمته إلا من باب مغفرة الله ورحمته التي كتبها الله لبني آدم، بعد كل ذنب وخطيئة.
ولننظر لمشهد الحساب يوم القيامة، لنرى ما أخبرنا به النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنه من كل مائةٍ يدخل واحدٌ منهم الجنة، وتسعة وتسعون من المائة يدخلون النار.
أليس هذا انتصارًا حقيقيا لتحدي الشيطان. فمن الذي ساعده على انتصاره في تحديه، إنه نحن.
ليس تخليا من الله عن المسلمين في معاركهم في فلسطين والشام والعراق وغيرها، وليس تخليا عن المسلمين المستضعفين في الهند والصين وكشمير وأفريقيا وغيرها، ولكنه قانون الله: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7].
نحن كعموم المسلمين لم ننصر الله على أنفسنا، وإخواننا المسلمون المستضعفون في فلسطين والشام والهند وكشمير هم كعموم المسلمين في عمومهم، لم ينصروا الله كذلك، ولو نصروه حق النصر لنصرهم حق النصر.
لننظر إلى حال المتدينين من المسلمين، الذين يملؤون المساجد في الصلوات، أين هم بعد صلواتهم من أوامر الله ونواهيه، وأين هم من وقوفهم أمام حدود الله، وكيف هم إذا خلوا بمحارم الله!!
عموم المسلمين لم ينصروا الله لينصرهم الله، ولا حتى خواص المسلمين، ولو نصروه لنصرهم، قانون الله وقوله، وقانون الله لا يتغير، وقول الله لا يتبدل كما قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق:29].