ليس الإيمان ادعاءً يُقال.... فإنّ لكل شيء ٍ حقيقة... وحقيقة الإيمان تكون بالعمل الصالح الذي يدل عليه.. فهو نتاجه وأثره...
ولعلّ سورة الحديد تجمع في آياتها بين الإيمان ونوع من العمل الصالح الذي يبرهن عليه ألا وهو الإنفاق... ولربما يؤكد ذلك ما جاء في حديث النبي المشهور "الطهور شطر الإيمان.... حتى قال عليه الصلاة والسلام " وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ ".
فكانت الصدقة برهاناً على إيمان المنفق، لأن النفس مجبولة على حبّ المال والشحّ به، فصار إنفاق هذا المال طاعة لله دليلاً على صدق الإيمان.
تبدأ السورة في مطلع آياتها، بالتأكيد على الخضوع التام في هذا الكون بأسره لله سبحانه، فكل ما في السماوات والأرض قد سبّح له تبارك وتعالى، وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو خالق السماوات والأرض و ومالك أمرها :" سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".
وهو الذي اتصف بما يليق بجلاله من الأسماء الحسنى والصفات العلى "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ".
وهو الذي له العلم المطلق، والشهيد على عباده والمتصرف في أحوالهم وشؤونهم :" يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ".
ومثل هذا التتابع في الأوصاف والأفعال لله تعالى، يوقع في النفس تعظيم الله – عز وجل – والاستسلام التام له سبحانه بالإيمان، ولذا جاء الأمر بعدها بالإيمان فقال تعالى :" آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ".
ولم لا تؤمنون بالله، وهو الذي نزّل الوحي ليكون هدى لكم فيخرجكم من الظلمات إلى النور "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"
وكثيرا ما ربطت الآيات بين المؤمنين والنور الذي يفيض منهم كقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ" وقوله أيضا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ".
إن الإيمان نور.... نور في قلب المؤمن، وحين يسلك دربه في هذه الحياة ينعكس هذا النور على ظاهره عملا صالحا نافعا... وسيرةً طيبةً في الناس...
وحين يخالط نور الإيمان سويداء القلوب... فإنها تخشع لذكر الله وما نزل من الحق.. وتكون أبعد ما تكون عن القساوة والفظاظة: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ".
ويوم القيامة يكون الجزاء من جنس العمل فيكثر هذا النور ويتعاظم.... حتى تصفه الآيات بأنه يسعى بين أيدي المؤمنين... "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ".
بل و حتى جهنم تتأثر بنور المؤمن حين يمشى على الصراط فوقها، وتقول له: "عجّل..فإن نورك أطفأ ناري "...
ثم يأتي في هذه السورة وصف الجنة وسعتها والتي هي مآل المؤمنين: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".
إذن... هو سباق بدأ.... زمانه هذه الحياة الدنيا...و مضماره الإيمان والعمل الصالح... وجائزته جنة عرضها السماء والأرض.....
ألا ما أسعد من شارك في هذا السباق و أسرع فيه ليكون من الفائزين...
و ألا ما أشقى من لم يشارك... ولم يستطع أن يحجز له مقعدا... أو يكون له مكان في جنة عرضها السماء والأرض.
وتحث السورة على الإنفاق في سبيل الله وترغّــب فيه بأكثر من أسلوب، فتجمع بينه وبين الإيمان في قوله تعالى: "آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ".
وتذكرك أن المال لله، وإنما أنت مستخلف فيه، ثم تجعل الإنفاق ميزاناً يقيس درجات المؤمنين ويفاضل بينها: "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ".
ثم تشبه الصدقة بالقرض تقرضه لله تعالى –وهو غني عنه بل له ميراث السماوات والأرض- فيرده إليك مضاعفا ومباركا إما في الدنيا وإما أجراً كريماً في الآخرة: "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ " وتؤكد على نفس المعنى وبذات الألفاظ في قوله تعالى: "إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ".
وأخيرا.. ولكي تنزع الآيات تعلّقك بالمال.... فيكون في يدك لا في قلبك....تخبرك أن متاع الدنيا قليل لما أعده الله للمؤمنين في الآخرة... وتضرب مثلا للحياة الدنيا في جمالها ونضرتها، كمثل غيث أنبت نباتا حسنا يسر الناظرين، لكنه سرعان ما يصير إلى زوال فيصبح مصفراً ثم حطاماً، لا وزن له ولا قيمة، تذروه الرياح... كما تزول هذه الدنيا ويكون المصير في الآخرة، فإما رضوانٌ من الرحمن وإما عذابٌ من ربٍ غضبان.
" اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ".
ومن مواطن التأمل في سورة الحديد أن لفظ " ينزّل " " وأنزلنا " جاء في موضعين :
الأول في نزول الوحي :" هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ".
والثاني في نزول الحديد الذي سميت به السورة " وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ".
فالموضع الأول تحدّث عن الوحي والقرآن وهو القوة المعنوية، والموضع الثاني تحدّث عن الحديد وهو رمزٌ للقوة المادية "فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" وانظر كيف قدم البأس الشديد على المنافع، وكأنها إشارة أنه لا بد من قوة مادية لينتصر بها الإيمان، وأنه لا عزة ولا تمكين لأهل الإيمان في الأرض إلا بإعداد القوة المعنوية والمادية على حد سواء.
لذلك قال الله بعدها مباشرة: "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".
ويأتي خير ختام ٍ للسورة... ليؤكد على ما بدأت به من التمسك بالإيمان عقيدة وعملا، كي تنال جزاء المؤمنين، وأن تتذكر دوما وأنت تسير في قافلة المؤمنين في هذه الحياة أن الأمر كله لله وأن الفضل كله بيد الله، فلا تضعف ولا تيأس ولا تبخل في أن تبذل ما تستطيع لنصرة هذا الدين من وقتك ومالك... والله لن يضيع أجرك وعملك فهو ذو الفضل العظيم والجزاء الكريم.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين