نكادُ لا نقرأ كلمة "التربية" في وقتنا الحاضر، إلا وهي مقترنةً بكلمة "التعليم" فقد اختزلت هذه المهمة بين أبواب المدرسة، وضُيِّقَت مفاهيمها عند مستوى العملية التعليمية.
وعلى أهمية التعليم، إلا أنه يظل أحد أفرع شجرة التربية الوارفة الظلال والأوراق، وبالتالي؛ فإن حصر عملية التربية عند أعتاب أبواب المدرسة يفقِد المجتمع الكثير من الأمور شديدة الأهمية في صناعة الوعي والتطور الحضاري له، من خلال المسارات التي تساهم فيها التربية في هذه المساحات.
وفي حقيقة الأمر، فقد فَطِنَتْ المجتمعات المتطورة إلى ما يُطلَق عليه مُسمَّى "المضمون الاجتماعي للتربية"، وأن التربية عملية اجتماعية، حتى على مستوى تفاعل العناصر البشرية المرتبطة بالعملية التعليمية معًا؛ لأن العلاقة بين التلميذ(ة)/ الطالب(ة)، مع الأستاذ(ة) في المدرسة، هي علاقة اجتماعية، وعلاقة كليهما بالمكان نفسه، المدرسة، هي علاقة نفسية واجتماعية.
ولذلك فإن البُعد الاجتماعي يُعد في العالم المتقدم، أحد أهم أركان فلسفة التربية، مع وجود مُدرَك مهم هناك، وهو أن النظام التربوي يتصل بالنظام الاجتماعي والنظام التعليمي معًا، ويُعد حلقة وصل بينهما.
ويقول الخبير التربوي، الدكتور سيد إبراهيم الجيَّار، وهو حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن: "إننا إذا انتقلنا من المجتمع الكبير، إلى عالم التلميذ ومجتمعه داخل حجرة الدراسة، فإننا لن نجد صعوبة بالغة، أو نضطر إلى زيارة جميع المدارس لإدراك حقيقة انعكاس نوعية المجتمع وعلاقاته على ما يحدث داخل المدرسة" [التربية ومشكلات المجتمع، القاهرة: دار غريب، الطبعة الأولى، 1977م، ص 9].
ومن بين أهم وظائف التربية في هذا الاتجاه، أنها تحافظ على المنظومة الاجتماعية القائمة، بمكوناتها الأخلاقية والفكرية، وكذلك القيمية، والتي تتجاوز في محتواها مفهوم الأخلاق إلى اتجاه أوسع متعلق بمحتوى تصورات الإنسان لذاته ومجتمعه، والقيم الأساسية التي توجهه في هذا الإطار، مثل الحرية والعدالة والمساواة.
كما أن للتربية دورًا سياسيًا في هذا الإطار؛ فإن الدول والحكومات في الأنظمة الديمقراطية، تستخدم أساليب التربية والتوجيه في تعريف المواطن بالسياسات العامة المتبعة، وإقناع الناس بها، وتهيئتهم إلى التفاعل معها بالشكل الذي يحقق المصلحة العامة حتى لو رفضوها؛ لأن التربية هي المعين الأساسي الذي يُكَوِّن شخصية الإنسان، وطرائق تفكيره وتقييمه للأمور، وكذلك طرائق تعامله معها بالإيجابية اللازمة.
ومن ثَمَّ فإن التربية هي أحد أهم وسائل وظيفة مهمة للحكومات، بشكل عام، وهي التنشئة السياسية، وكذلك، مواكبة أهم عناصر تطور المجتمعات الإنسانية السَّوِيَّة، وهو التغيير.
وتقول الكاتبة الصحفية هاجر محمد محمود، إن بعض القيم والاتجاهات والمفاهيم الجديدة، قد تتعارض مع بعض العناصر الثقافية السائدة، وهنا يظهر دور التربية في توضيح هذه القيم والمفاهيم والأساليب السلوكية والمعايير الاجتماعية، وكذلك أهميتها للفرد والمجتمع من خلال المناهج والطرق والوسائل التربوية.
كما تُسهم التربية في فترات التغيرات الاجتماعية السريعة في بناء النظام الاجتماعي الجديد، كما تعمل على الحفاظ على قيم المجتمع المهمة وتراثه الثقافي والحفاظ على هوية وأيديولوجيا المجتمع [مجلة "المجلة": 5 يوليو 2019م].
وهنا ينبغي توضيح أمر مهم، وهو أن التغيُّر الاجتماعي هو أبو كل التغيُّرات التي تحدث في أي مجتمع، بما في ذلك التغيُّر السياسي، تمامًا مثلما أن العلوم السياسية، هي جزء من العلوم الاجتماعية والعمران.
وتقول الكاتبة انتصار العتوم، إن جميع المجتمعات لا بد أن يحدث فيها تغيير - أي تغيير - يقود إلى التجديد - سلبًا أو إيجابًا - في النواحي الاجتماعية والمادية، والمجتمعات الصحيحة؛ هي المجتمعات التي تحاول القفز إلى الأمام بشكل سريع من أجل اللحاق ومواكبة التحضر الاجتماعي [موقع "إي. عربي"، 28 نوفمبر 2020م].
وهنا تظهر الأدوار الاجتماعية للتربية، أو التربية الاجتماعية، ومن بين أدوارها المهمة، الموازنة بين اعتبارات المحافظة على الثقافة والهوية والتراث، وبين متطلبات التقدم والتطور الحضاري.
وأبرز المساحات التي تتحرك فيها التربية وفق هذه المفاهيم، هي الأجيال الجديدة؛ فيأخذ مفهوم التنشئة مساحته الأقرب إلى التصور الذهني الذي يتبادر إلى العقل عند الحديث عن التنشئة، بالرغم من أن عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية؛ هي عملية تشمل كل أركان المجتمع، بكل مراحله السِّنِّيَّة.
إلا أن هذا الدور يتأثر بعدد كبير من العوامل، منها ما هو اقتصادي، مثل الفقر والبطالة، ومنها ما هو سياسي، مثل غياب هذه الفلسفة أو الرؤية عن الحكومات، ومنها ما هو ثقافي يتعلق بطبيعة المجتمع ذاته، والذي قد لا يكون يعطي أولوية أو أهمية لمثل هذه الأمور.
ومن بين أهم الأمور التي تؤثر على نمط الدور الاجتماعي للتربية، الاعتبارات المتعلقة بالدِّين، والعادات والتقاليد، وهما الرافدان الأساسيان اللذان يؤثران على المجتمعات بشكل عام، وفي المجتمعات ذات الطابع العلماني، أو المادية الطابع؛ فإن العلمانية وقيمها هنا، تلعب ذات الدور الذي يلعبه الدين، والمجتمعات التي لا تؤمن بالديانات المُنَزَّلة من اللهِ تعالى لهداية البشرية؛ فإن الفلسفات والديانات الوضعية تلعب ذات الدور.
أما أدوات صياغة تأثيرات التربية وفق هذه الفلسفة أو المنظور الأوسع لها، على المجتمع، فإن الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمساحات الثقافية، هي الأبرز في هذا الصدد، ومن ثَمَّ لا يمكن الحديث عن دور اجتماعي للتربية، من دون تنسيق هذه الأدوار، والاهتمام بتنمية الوعي في هذه المسارات، وتنمية وعي الآباء والأمهات في الأُسَر، وتعميق هذه الرؤية عند العاملين في المساحات الإعلامية والثقافية المختلفة.
وبجانب أن هذا في الأساس، من بين أهم أدوار الحكومات ومنظومات الحكم، إلا أنه كذلك يبقى من مسؤوليات أولياء الأمور في الأُسَر، وبالتعاون مع التربويين في المدارس؛ لأن مثل هذه الأمور من المفترض أنها قد صارت بدهيات في المجتمعات الإنسانية المستنيرة والمتطورة يفعلها الناس العاديون من دون انتظار لتوجيهات الحكومات.