قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: "إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: لَا نُوَسْوَسُ، فَقَالَ: صَدَقُوا، وَمَا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ".
ذكر الشيطان (88) مرة في القرآن الكريم، وجاء ذكره بأربع ألفاظ مختلفة (شيطان، شياطينهم، الشياطين، شيطاناً)، أما لفظ إبليس فذكر (11) مرة.
إن العامل المشترك في كل المرات التي ذكر فيها الشيطان في القرآن الكريم أنه ملعون رجيم، وأنه عدو للمؤمنين، وأنه لا يكف عن الوسوسة لهم ليفسد عليهم معيشتهم وعبادتهم، وأن من تولاه فإنه يضله.
إن وسوسة الشيطان عبارة عن سهام طائشة يُطلقها ليصيب بها قلوب عباد الله المؤمنين رغبة منه في أن يُصيب من هذه القلوب شيئًا يصرفها عن الطاعة، أو أن يجعلها تحيد عن طريق الإيمان الذي هداها الله تعالى إليه.
إن الوسوسة هي بذور المعاصي والفتن يُلقي بها الشيطان فإن صادفت زيغاً أو هوى واستحساناً نمت وترعرعت وأينعت وأثمرت فكانت الطامة الكبرى، وإن وجدت قلباً بالإيمان عامراً ونفساً عن الهوى مُعرضة عطبت هذه البذور وتولَّى الشيطان مُدبرًا وحاله يقول لا سبيل لنا مع هذا القلب ولا سلطان لنا على هذه النفس.
قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في (الفتاوى الكبرى): "وَكُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَوَجُّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ جَاءَ مِنْ الْوَسْوَاسِ أُمُورٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، كُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ أن يَسِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَادَ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ" اهـ.
أولاً: تعريف الوسوسة:
إن الوسوسة هي حديث النفس، وحديث الشيطان بما لا خير فيه ولا فائدة.
- سُئِل ابنُ مسعود رضي الله عنه عن الوسوسة فقال: "هي برزخٌ بين الشك واليقين".
- وعرَّف الفيروزآبادي الوسوسة فقال: "الوسوسة والوسواس ما يُلقيه الشيطان في القلب".
- وعرَّفها الراغب فقال: "الوسوسة: الخطرة الرديئة".
ثانياً: أنواع الوسوسة
الوسواس نوعان:
1- وسواس باتباع الهوى وإتيان الذنوب وارتكاب ما حرَّم الله تعالى من الفواحش.
وهذا النوع يشترك فيه شياطين الجن، وشياطين الإنس، وتطاوعهما النفس الضعيفة الأمَّارة بالسوء.
قال تعالى: " فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى {120}" (طه: 120).
وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112}" (الأنعام: 112).
وقال تعالى: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ {6}" (سورة الناس).
2- وسواس وخواطر اعتقادية فاسدة يلقيها الشيطان على قلب الإنسان دون قصد من صاحب هذا القلب ليُفسد عليه عبادته وسائر عمله.
وهذا النوع مصدره الشيطان الرجيم الذي يحاول أن يُشكِّك المُبتلى في وضوئه، وفي طهارة ثيابه وبدنه، وفي صلاته وعبادته، ويُلبِس على الإنسان كل ذلك لكي يصرفه عن الطاعة أو لكي يُبَغِّضه فيها فيستثقلها أو ينصرف عنها.
ومدافعة هذا النوع من الوسواس تعتمد على صلابة الإيمان وقوة النفس، فإن صادفت وسوسة الشيطان قلباً مُؤمناً ونفساً مُطمئنة خنس الشيطان وأدبر، وإن صادفت غير ذلك والعياذ بالله، التقم الشيطان القلب وهيَّج النفس ولعب بصاحبهما كما يلعب الصبيان بالكرة، فلا ترى الإنسان إلا كالمجنون الذي يُصارع طواحين الهواء أو يريد إسقاط نجوم السماء، أعاذنا الله وإياكم من هذا الحال وهذا المآل.
ثالثاً: سبب الوسوسة
إن أغلب من يُصابون بالوسوسة إنما يأتيهم الشيطان من قِبَل:-
- جهلهم بعدوهم الشيطان ومكائده ومداخله.
- جهلهم بالحُكم الشرعي تجاه الوساوس.
- الاسترسال والانسياق وراء ما يُلقيه الشيطان من وساوس في طريقهم.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْوَسْوَسَةُ إنَّمَا تَحْصُلُ لِعَبْدِ مِنْ جَهْلٍ بِالشَّرْعِ أَوْ خَبَلٍ فِي الْعَقْلِ" اهـ.
إن من يقعون في فخ الشيطان ويستسلمون لمداخله وحِيله قد يتطور بهم الأمر فيحتاجون علاجًا نفسيًا بجانب العلاج الشرعي.
رابعًا: وصايا نبوية لدفع الوسوسة
1- عن أبي العلاء البياضي أنَّ عُثْمَانَ بنَ أَبِي العَاصِ رضي الله عنه، أَتَى النبيَّ ﷺ، فَقالَ: "يا رَسولَ اللهِ، إنَّ الشَّيْطَانَ قدْ حَالَ بَيْنِي وبيْنَ صَلَاتي وَقِرَاءَتي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ذَاكَ شيطَانٌ يُقَالُ له خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ باللَّهِ منه، وَاتْفِلْ علَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا قالَ: فَفَعَلْتُ ذلكَ فأذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي" (صحيح مسلم).
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النبيِّ ﷺ، فَسَأَلُوهُ: إنَّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ" (صحيح مسلم).
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سُئِلَ النبيُّ ﷺ عَنِ الوَسْوَسَةِ، قالَ: تِلكَ مَحْضُ الإيمانِ" (صحيح مسلم).
* قولهم: "إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ": أي نجد في أحاديث النفس أموراً كبيرة يعظم علينا أن ننطق بها لقبحها ولنفورنا عنها.
* وقوله ﷺ: "ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ"، "تِلكَ مَحْضُ الإيمانِ ": أي أن مدافعتكم لما يُلقيه الشيطان في قلوبكم، واستنكاركم النطق به هو اليقين والإيمان الخالص الذي لا يشوبه ما يُفسده.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى): "أي: حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلوب هو من صريح الإيمان كالمجاهد الذي جاءَهُ العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا عظيم الجهاد، ولهذا يوجدُ عند طلاب العلم والعبّاد من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم" اهـ.
كما قال أيضاً: "فالشيطان لما قذف فى قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك الإيمان الذى فى قلوبهم بالكراهة لذلك والإستعظام له فكان ذلك صريح الإيمان" اهـ.
وقال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: "وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {200}" (الأعراف: 200).
"لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يُعاقبوا على ما وقع في أنفسهم. فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه، لصحة إيمانكم، وعلمكم بفسادها. فسمى الوسوسة إيمانًا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها والجزع منها صادرًا عن الإيمان" اهـ.
من هنا نفهم أن الشيطان إذا عجز عن إغواء المسلم بالذنوب والمعاصي والفواحش والمنكرات تسلّط عليه بِسِلاحِه الضعيف "الوسوسة"، لذلك قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).
3- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقال يا رسولَ اللهِ إنَّ أحدَنا يجدُ في نفسِه، يعرضُ بالشيء، لأن يكونُ حممةٌ أحبَّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال: اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الحمدُ للهِ الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ" (سنن أبي داود).
* قوله: لأن يكونُ حممةٌ: قال أبو عبيد: الْحُمَم الفَحَم، واحِدَتُها حُمَمة.
أي أن الإنسان أحبّ إليه أن يَحتَرِق حتى يَكون فَحْمَة مِن أن يَتَحدَّث بما يَجِد في نفسه.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لا يَزالُ النَّاسُ يَتَساءَلُونَ حتَّى يُقالَ: هذا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ فمَن وجَدَ مِن ذلكَ شيئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ" (صحيح مسلم). وفي تخريج سنن أبي داود: "فإذا قالوا ذلك، فقُولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] ثُمَّ لْيَتْفُلْ عن يَسارِه ثلاثًا، ولْيَستَعِذْ من الشَّيطانِ".
قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في (المفهم): "قل آمَنْتُ بِاللّهِ" أمر بتذكر الإيمان الشرعي، واشتغال القلب به لتمحي تلك الشبهات، وتضمحل تلك الترهات" اهـ.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "يَأْتي الشَّيْطَانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ كَذَا؟ مَن خَلَقَ كَذَا؟ حتَّى يَقُولَ: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ" (صحيح البخاري).
* قوله ﷺ: "فَلْيَسْتَعِذْ بِالله وَلِيَنْتَهِ": أي فليستعذ بالله من وسوسة الشيطان، ولينته عن الاسترسال في التفكير فيما يوسوس به.
6- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ" (رواه أحمد، والترمذي).
* همزه: المؤتَة: نوع من الجنون. * نفخه: الكبر. * نفثه: الشعر المذموم.
7- عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إذا صلَّى أحدُكم إلى سُترةٍ فليدْنُ منها لا يقطَعِ الشَّيطانُ عليهِ صلاتَه" (سنن أبي داود).
8- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس" (رواه البخاري تعليقاً بلا ذكر سند).
وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى