القرآن الكريم.. من لدُن حكيمٍ عليمٍ
كتب- أحمد التلاوي
عرفت مصر في الآونة الأخيرة، جدلاً بعد انتشار مقطع مصور قديم نسبيًّا للقُمُّص المصري المقيم في الولايات المتحدة، زكريا بطرس، عن أصل القرآن الكريم، وأنه مكتوب من لُدن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، حاشاه ذلك.
وبعيدًا عن جذر الأمر؛ من أنه كانت محاولة من أجل إحداث فتنة طائفية في المجتمع المصري، وبعد أن تبرأت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من الرجل؛ فإنه من الأهمية بمكان الوقوف على أصل المسألة التي أثارها هذا الرجل. أصل القرآن الكريم.
فهذه المسألة، هي واحدةٌ من الأدوات التي كثيرًا ما يلجأ لها أعداء هذا الدين، في إطار التشكيك فيه، والنيل منه في أهم أركانه؛ كتاب التعاليم والغرس العَقَدي الروحي الأساسي للمسلمين؛ القرآن الكريم.
وعبر القرون الطويلة الماضية، كانت الافتراءات كثيرة، منها أنه قد تم وضعه من جانب الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أو من جانب أبي بكرٍ وعمر (رضي اللهُ عنهما)، المهم أنه – وفق هؤلاء القوم – ليس بكلام الله تعالى، وبالتالي – وفق زعمهم – فإنَّ محمدًا رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، هو مدعٍ للنبوة.
وبطبيعة الحال؛ فإن أخطر هذه الافتراءات، هي التي تربط القرآن الكريم بالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، مع تهافت وسهولة تفنيد الادعاءات الأخرى، مثل أنه وضع في عصر الدولة الأموية، وما إلى ذلك.
ومما تعلمناه في مجال البحوث الاجتماعية، والمناظرات، فإن أهم آلية لنفي منطق الخصوم، الدخول من ذات مدخهلم، بنفس منطق علماء الأحياء، عندما يتصدون للفيروسات القاتلة باستخدام جزء معين من الفيروس، أو فيروس تم إضعافه، من أجل تنشيط الجهاز المناعي، في مواجهة الفيروسات القاتلة.
وهو ما يعني أن بوابتنا هنا لنفي هذه المزاعم والافتراءات، هي الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" ذاته، مع بعض قواعد علم النفس والاجتماع مما أيده الدليل العلمي، مع بعض الحدث التاريخي.
يعرف التاريخ حالات كثيرة لمُدَّعي نبوة، وقالوا بأنهم يأتون بكلامهم لأتباعهم من عند اللهِ تعالى. هذه العينة من البشر التي ارتضت على نفسها، ولم تخشَ ذلك؛ أن تتألَّه على اللهِ تعالى، وتكذب عليه، والعياذ بالله؛ تملك من الخصائص النفسية والسلوكية مما تتشابه فيه.
فهم عندما يقومون بذلك؛ فإنهم أولاً، يضفون على أنفسهم سمات قداسة عظيمة أمام أتباعهم، ويعلمون على أن يحققوا لأنفسهم أكبر قدر ممكن من المكاسب والمغانم؛ السياسية والمادية؛ كأن يصيروا ملوكًا، ويغنموا من ثروات أقوامهم، ويكنزون منها.
وبالتالي، يعملون على أن يؤسسوا لذلك فيما يقولون إنه وحيٌّ من عند الله تعالى، حاشا لله ذلك.
وإذا ما طبقنا هذه القواعد على حالة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وبعثته، وما جاء به من كلام ربه؛ لرأينا العكس تمامًا.
وكلا المصدرَيْن، السيرة النبوية والقرآن الكريم، يحفلا بالنماذج التي تجبُّ فكرة ادعاء محمدٍ (عليه الصلاة والسلام) للنبوة، وأنه هو واضع هذا الكتاب العظيم.
ولنأخذ أولاً من السيرة النبوية بعض المواقف. الموقف الأول، عندما أتاه عمه أبو طالب بعرض قريش السخي لترك الدعوة لدين الله، نظير منحه الجاه والسلطان والثروة. فبمَ أجاب؟!.. كلنا نعلم ذلك.. قال: "يا عمَّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته" [صحيح سيرة ابن هشام]، ونعلم أنه قد انتقل إلى جوار ربه، وهو لا يملك من حُطام هذه الدنيا أيَّ شيءٍ، ورهن درعه ليهودي.
ونعلم عنه أنه كرامةً ومروءةً؛ منع تمر الصدقة عن آل بيته الأطهار، بأمر من ربه، وفي واقعة "الحديبية"، لم يفعل فعل الملوك، ويأمر بضرب رقاب معارضيه من الصحابة، وإنما ذهب إلى خيمته حزينًا عليهم، لأنه كان يعلم أنهم لو أصروا على موقفهم هذا؛ ففيه هلاكهم، ثم كانت نصيحة أم المؤمنين، السيدة أم سَلَمَة (رضي اللهُ عنها)، وكان وأد الفتنة في سلام.
أما القرآن الكريم؛ فهو يحمل الكثير والكثير من الآيات والدلائل على نبوة محمد "عليه الصلاة والسلام"، وأن هذا القرآن الكريم من لدن حكيم خبير، وهو الله عزَّ وجل.
ومما يدلُّ على أنَّ القرآن الكريم، هو كلامُ اللهِ تعالى، وكتابُه العزيز، أنه لم يمنحَ رسولَه الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وهو الرسولُ الخاتم، وإمام الأنبياء والمرسلينَ؛ لم يمنحه أيَّةَ صلاحيةٍ على البشر.
قال له؛ لستَ عليهم بمسيطر، وقال له؛ ليس لك من أمرِ إيمانهم أو عدم إيمانهم من شيء، وحرَّم عليه الزواج في مرحلةٍ متقدمةٍ من حياته، وعاتبه، ولام عليه، وتوعده بالعذابِ إنْ فرَّط أو ضلَّ أو أضلَّ الناس.
يقولُ تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" [سُورَة "البقرة" – من الآية 256].. "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" [سُورَة "الكهف" – من الآية 29].
ولا وصاية للرَّسولِ الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، على أحدٍ، ولا على عقيدته.. "لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" [سُورَة "آل عِمران" – من الآية 128].. "لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ" [سُورَة "الغاشية" – الآية 22].
ولنتأمل في قوله تعالى هذا: "وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)" [سُورَة "البقرة"]، وقوله عزَّ وجل: "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)" [سُورَة "يُونُس"].
وفي سُورَة "الأحزاب"، يقول تعالى: "لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)".
والنماذج كثيرة، منها موقف سُورَة "عَبَس"؛ حيث العتاب الرباني العظيم لنبيه عليه الصلاة والسلام؛ فهل هناك مدَّعٍ للنبوة، يكتب عن نفسه هذا الكلام؟!
لو أنَّ محمَّدًا هو كاتبُ هذا القرآنِ؛ لأعطى لنفسه ما لا حصرَ له من الصلاحيات والحقوق على الناس كافَّة؛ مسلميهم وغير مسلميهم، ولفَرَضَ الإيمان به على الجميع، لكنه كلامُ اللهِ تعالى، وهو رسولُه؛ جاء ليحملَ الأمانة، ويبلغه للنَّاسِ كافة، ومَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفُر، والناس أحرار فيما يؤمنون به، ويعتقدونه، كما قال القرآنُ الكريمُ.
إن محمدًا، هو رسول اللهِ "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ونبيه الخاتم، والقرآن الكريم، هو كلام اللهِ تعالى لا ريبَ فيه، ومنطقه المُحكَم القويم، لا يمكن لبشرٍ تعتريه عوارض الإنسان، مثل النسيان وقصور العقل، أنْ يأتي بمثله.