القرآن الكريم.. كتابُ اللهِ الذي لا نعرفه!

الرئيسية » بصائر الفكر » القرآن الكريم.. كتابُ اللهِ الذي لا نعرفه!
man-reciting-the-quran-1

يمثل القرآن الكريم المركزية الأهم لنا كمسلمين؛ فهو الوعاء الأساسي للأحكام الشرعية، وهو مصدر الإلهام الروحي للمسلمين، والإطار الجامع لهم، وهو معجزة اللهِ تعالى الخالدة إلى أنْ يشاء فيرفعه من صدور الناس، كأحد علامات الساعة.

والقرآن الكريم، هو كتاب اللهِ المُتعبَّد بتلاوته، والذي لا تتم أهم عبادات المسلم (وهي الصلاة) من دونه، وهو الأساس الذي حفظ للغة العربية كيانها وبقاءها وقدسيتها إلى الآن، وساهم في تطوير المحتوى الثقافي والمعرفي والفكري عند شعوب وأمم حضارية عظيمة، عندما دخلت إلى الإسلام.

إلا أنه وبكل تأكيد - وكما في القرآن الكريم نفسه - فإننا كمسلمين لا نعرف إلا أقلَّ القليل من هذا الكتاب العظيم، ذي الهيبة والسلطان على النفوس والعقول، يقول تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].

وفيما قال بعض المفسِّرين إنَّ المقصود به هو تأويل القرآن الكريم، يقول عزَّ وجلَّ:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109].

وبالتأمُّل في آي الذِّكْرِ الحكيم، يمكننا أن نقِفَ أمام الكثير من الأمور التي تتراجع في الخلفية لدى كثير من عموم المسلمين، لحساب الصورة القريبة في الذهن عن القرآن الكريم، والتي غالبًا ما تقف عند حدود التلاوة في الصلوات الخمس، والختْمات المتواترة، أو تلك التي يكون الإقبال عليها أكثر في شهر رمضان المبارك.

أول ملمح نودُّ الإشارة إليه في هذا الموضع من الحديث، هو شمول القرآن الكريم لقوانين العمران والخَلْق، والتي منها قوانين الاجتماع:الإنساني والسياسي ومختلف صور العمران.

فالعمران والخَلْق المُحَكم لهذا الكون، والتدبير القويم للدُّنيا من لدن ربِّ العِزَّة سبحانه، يستند على قوانين دقيقةٍ مُحْكَمَة، مثل الاستطاعة والملاءمة والتدافُع، وكلها موجودة في القرآن الكريم.

مثلًا، في قوانين الاستطاعة والملاءمة، يقول تعالى:{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] أما في قوانين التدافُع، يقول تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، ويقول تعالى أيضًا:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحَج:40].

وفي قوانين العمران الفيزيائي، يقول تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10].

ويقول سبحانه أيضًا:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحَج:65].

وتظلُّ هذه القوانين حاكمة بأمرِ ربِّها، حتى يأتي أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتنتهي الدنيا فتتبدَّل القوانين والخَلْق، يقول تبارك وتعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].

وفي هذه الآية، نقف أمام قانونٍ عمرانيٍّ نافذٍ آخر، شاءته الحكمة الإلهية، لتيسير سُبُل حياة الإنسان على هذه الأرض، وهو قانون "التسخير"؛ الذي يحقق اسم اللهِ تعالى "العدل"، العدل في محاسبة عباده على تكاليفه لهم، واستخلافه لهم في عمارة هذه الأرض، بموجب ما مكَّنهم فيه.

جانبٌ آخر للحديث الذي نبغي به حفر القشرة الخارجية التي أحطنا بها الصورة الذهنية لدينا عن القرآن الكريم، وتعاملنا معه، وطرائق تفسيرنا له، هو أنَّنا ينبغي لنا أنْ نفهم –من كلام اللهِ تعالى نفسه كما سوف نرى من نماذج آياتٍ– أنَّ هذا الكتاب (كتاب اللهِ تعالى) له مفهوم أكبر بكثير مِن كونه وعاء أقوالٍ وأحاديث تضم الأحكام الشرعية وقصص الأوَّلين والعظات والعبرة وقوانين الخَلْق، وإنما هو شيءٌ أكبر وأعمق بكثير من ذلك، على عظيم أهمية هذه الأمور بطبيعة الحال.

ينبغي لنا أنْ نفهم أنَّ كتاب اللهِ تعالى له مفهوم أكبر بكثير مِن كونه وعاء أقوالٍ وأحاديث تضم الأحكام الشرعية وقصص الأوَّلين والعظات والعبرة وقوانين الخَلْق، وإنما هو شيءٌ أكبر وأعمق بكثير من ذلك، على عظيم أهمية هذه الأمور بطبيعة الحال

ولو تأملنا في القرآن الكريم ذاته؛ سوف نقف أمام أمرٍ واضحٍ، وهو أنَّ الآيات التي تكلمت عن القرآن الكريم، تضعه في صورةٍ مغايرةٍ لما نظنه عنه.

منها على سبيل المثال، قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48].

وقوله سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرَّعد:31].

في كلا الآيتَيْن عند المفسرين في كتب التفسير -ومنها تفسيرا ابن كثير والإمام القرطبي- فإن مفهوم "الكتاب" ومفهوم "القرآن"، هما مفهومان متصلان منذ بدء اللهِ تعالى في إرسال الأنبياء والمرسلين، وإنزال كتبه على بعضهم.

ففي الآية الأولى، يقول ابن كثير:"لمَّا ذَكَرَ تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه -عليه السلام- ومَدَحَها وأثنى عليها، وأَمَر باتِّباعها؛ فقد كانت سائغة الاتِّباع، وذَكَر الإنجيلَ ومَدَحَهُ، وأَمَر أهلَه بإقامته واتباع ما فيه (...) شَرَع تعالى في ذِكْر القرآن العظيم، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة:48]، أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنَّه من عند الله، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:48]، أي:مِن الكتب المتقدمة المتضمِّنة ذكره ومدحه، وأنه سينزلَ مِن عند الله على عبده ورسوله محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".

أما الإمام القرطبي، فقد ذَكَر في تفسير الآية الثانية (آية الرَّعد:31) أنَّها نَزَلَت ردًّا على جدل بعض مشركي مكة مع الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم– حين تحدُّوه بأنْ ربُّه -تعالى اللهُ عمَّا يصفون– يستطيع تسيير الجبال أو بتقطيع الأرضِ أو إحياء الموتى، بالقرآن الكريم، باعتباره المعجزة التي جاء بها النبي -عليه الصلاة والسلام- كما فعل اللهُ تعالى بإذنه سبحانه مع داوود وسليمان وموسى وعيسى -عليهم السلام- في معجزاتهم، التي أشار إليها القرآن الكريم.

هنا ردَّ عليهم اللهُ تعالى في القرآن الكريم بأنه لو كان هناك كتابٌ يمكن أنْ تُسَيَّر به الجبال أو تُقطَّع به الأرضُ أو يُكلَّمُ به الموتى لكان هذا الكتاب الذي أنزله على الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

ويشير ذلك كله إلى وجود اتصال كبير بين القرآن الكريم (الكتاب الذي نقصده) وبين كتب السابقين، مثل صحف إبراهيم وزبور داوود وتوراة موسى وإنجيل عيسى، ووفق القرطبي؛ فكلها يطلق عليها مسمى القرآن.

ويشير ابن كثير إلى أن "القرآن" هنا، استخدِمَت في وصف كتب أنبياء ورُسُلِ اللهِ تعالى السابقين، مثل "الزبور" الذي أنزله اللهُ سبحانه وتعالى على نبيِّهِ داوود - عليه السلام.

فيقول في ذلك:"وقد يُطلق اسم "القرآن" على كل من الكتب المتقدمة؛ لأنه مشتق من الجميع، قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "خُفِّفَت على داوود القراءة فكان يأمر بدابته أن تُسرَج فكان يقرأ القرآن مِن قبل أنْ تُسرَج دابته وكان لا يأكل إلا مِن عمل يدَيْه" [انفرد بإخراجه البخاري].

وهذه الآية، (آية الرَّعد) تقول الكثير عن عظمة ومكانة القرآن الكريم، والتي لا يدركها حقيقةً إلا مَن وضعه وأنزله، والقادر على أنْ يأتي به أيَّ شيءٍ يريد، مهما بدا لنا أمرًا مُعجِزًا، لما في هذا القرآن مِن إعجاز لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله كما يقول ابن كثير.

وفي الحقيقة، فإننا بحاجةٍ إلى الكثير من التأمُّل والتدبُّر في القرآن الكريم، وتوسيع دائرة فهم كتاب اللهِ تعالى، واستيعابه على عموم المسلمين وعوامهم؛ لا صفوتهم ومفكِّريهم فحسب؛ فإنَّ من تمام عقيدة المسلم وإيمانه فهم هذا الكتاب المُعجِز، وحقيقةِ مراداتِ اللهَ تعالى منه.

ولكنَّا في النهاية لا يمكن أنْ نحيط بأيَّ شيءٍ من علمِ اللهِ تعالى إلا أنْ يأذنَ لنا، وقل لو كان البحرُ مدادًا لكلماتِ ربي لَنَفِدَ البحرُ قبل أنْ تنفدَ كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مددًا!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …