تجارة وتجارة …. سورتي الصف والجمعة

الرئيسية » بأقلامكم » تجارة وتجارة …. سورتي الصف والجمعة
quran-fact

تأتي سورة الجمعة في ترتيب المصحف بعد سورة الصف، وفي السورتين يذكر الله تعالى نوعين اثنين من التجارة، أما الأولى فهي التجارة الرابحة، فيها يبيع المؤمن نفسه وماله لأجل نصرة الله ودينه، وهي التي أشار الله لها في سورة الصف بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ".

فماذا لكم إن تاجرتم مع الله أيها المؤمنون؟ ... تأتي الآيات بعدها لتبشرهم بالثواب الجزيل والأجر العظيم:" يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".

وتأمل كيف سبق غفران الذنوب دخول الجنات، وكأن لذة الجزاء المادي لا تكتمل إلا أنْ يسبقها الجزاء المعنوي، وكأنّ الجنة كما وصفتها الآيات مساكن طيبة، لا يدخلها من عليه أثر المعاصي وقذر الذنوب، قيجتمع لهم بذلك طيب الباطن وطيب المقام.

ولم الجهاد في سبيل الله والذي وصفته الآيات بالتجارة مع الله؟

ذلك أن الانتماء لهذا الدين له تبعات ثقيلة ... وتكاليف شاقة، فليس الأمر مجرد ادعاء بالقول دون عمل يُترجم إلى واقع ... ولذلك تجد من أول السورة التأكيد على هذا المعنى وتقريره.

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ".

فإن كنتم صادقين في انتسابكم لهذا الدين، فذودوا عنه، وكونوا صفّا متماسكا وجداراًمتراصا ً لنصرته "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ".

كما أن السورة تصف لك، جدّ الأعداء واجتهادهم في الكيد لهذا الدين، والسعي المتواصل لإطفاء نوره، فوجب أن يكون هناك من يردّ هذا الكيد ويصدّ هذا العدوان: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ".

وعليكم ببذل الأموال والأرواح لنصرة دينكم، ولا تشغلنّكم النتائج والعواقب، فإن الله تعالى مُظهرٌ دينه، وناصرٌ أولياءه: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ".

فالعواقب حميدة ... والنتائج مضمونة، وفوق ذلك الجائزة حاضرٍة ... والجنة ناظرة.

ولكن هل قمت بدورك المطلوب، وأديت ما عليك من حق الله ودينه عليك؟

وتُختم سورة الصف بمشهد رائع من النصرة، وتجديد الولاء، ذلك هو مشهد الحواريين يبايعون نبيهم عيسى عليه السلام على نصرة الله ونبيه .

وتلك بيعة قائمة في عنق كل مؤمن إلى يوم القيامة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ".

وأما النوع الثاني فهي التجارة التي تلهو وتصد عن ذكر الله، وهي التي يذكرها الله في أواخر سورة الجمعة: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ".

إذن ... هي مقابلة بين متاع الدنيا وما عند الله ... وشتّان بين الأمرين: "وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ".

وتلفتك السورة إلى ما عند الله من مفاتيح الرزق، وخزائن السماوات والأرض منذ بدايتها فهو الذي له ما في السماوات والأرض، وهو الملك القدوس، فابتغ ما عنده ولا تغرنك الحياة الدنيا.

" يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ".

وتذكرّك السورة بالموت الذي هو نهاية كل شيء .... والذي يقطع كل أمل وينهي كل متاع ...

وبعدها تجد جزاء ما قدمت، فلا تلتهي بتجارة الدنيا وتمسّك بتجارة الآخرة.

" قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".

ولأن الإسلام منهج حياة .... ودينُ واقع، فهو لا يمنعك من الاستمتاع بما هو حلال بحيث أن لا يلهيك عما أمرك الله به من الطاعة والعبادة، وأن لا يشغلك عن الغاية المنشودة التي خلقك الله من أجلها فتصبح الدنيا همك وغاية مناك؟.

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ".

وتأمل كيف ترتب لك الآية الكريمة الأولويّات في حياتك، فلا بدّ أن يأتي الدين أولا، وتكون عبادة الله محور حياتك وجلّ اهتمامك، فإذا كانت الصلاة وهي هنا فريضة الجمعة -ويقاس عليها كل فريضة جاء وقتها- فذر البيع، فإن أديت حق الله وما فرضه عليك فلا مانع من الانتشار في الأرض لكسب الرزق وتحصيل ما كُتب لك من فضل الله
وانظر ...لما ذكر الصلاة قال: "فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" ولما ذكر طلب الرزق قال: "فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ " والسعي هو المضي بهمة وعزيمة.

كل ذلك ...كي تكون الدنيا في يدك لا في قلبك ... وكي تكون الدنيا مزرعة للآخرة ... فتكون الدنيا سبباً لا غايةً، وتأخذ منها ما يكفيك وما يعينك في مواصلة الطريق إلى الله.

ولعل هذا من منهج التزكية ومعين الحكمة الذي أشارت له السورة في أوّلها في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ".

هذا والله أعلم

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …