عندما ينتصر أهل الباطل ولا يزداد أهل الحق إلا اختلافا وتعاديًا!

الرئيسية » بصائر الفكر » عندما ينتصر أهل الباطل ولا يزداد أهل الحق إلا اختلافا وتعاديًا!
victory6

إنه من الأسلم والأدق والأليق أن نقول: انتصر أهل الباطل على أهل الحق، ولا نقول: انتصر الباطل على الحق؛ فالحق لا ينتصر عليه الباطل مهما بلغت قوته وسيطرته، فهزيمة الحق انكسارُه وتبعيته للباطل ورضوخه له، وهذا ما لا يكون أبدًا.

بل يبقى الحق مهما بلغ ضَعفُ حَمَلته عزيزًا قويًا ثابتًا، ولو في القلوب والصدور، الحق هو كلمة الله، وهي الكلمة التي جعل الله لها العلو أبدًا، حتى ولو انهزم أهلها وجُندها في ألف معركة، فهي كلمة مستقرة في القلوب والعقول، ولا تهتز هذه الكلمة ولا تبرح مكانها ومكانتها مهما كان، بل إن العجب العُجاب، أنها تزداد رسوخًا وثبوتًا في القلوب والعقول كلما ازداد ضغط أعدائها على أهلها ومعتنقيها.

يقول الله - عز وجل - في كتابه {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، وفيها يقول المفسرون: إن كلمة الله مرفوعةٌ باعتبارها مبتدأ، وغير منصوبة على اعتبار أنها مفعولٌ للفعل جعل، ذلك للتأكيد على أنها دائمًا عُليا، مهما كانت الهزيمة التي تلحق بجندها، ومهما كانت كيفيتها.

إذن، أهل الباطل هم الذين ينتصرون على أهل الحق في بعض الجولات والمعارك، ولا ينتصر الباطل على الحق أبدًا، فالحق هو كلمة الله، وهو باق ببقاء الله، وعزيز بعزة الله، مهما كانت الظواهر وتفصيلاتها.

وقد كتبنا قبل ذلك حول أسباب انتصار أهل الباطل على أهل الحق، وقلنا ما مُجمله: إن أهل الباطل ينتصرون على أهل الحق، إما لأن أهل الحق لا يستحقون النصر لذنوبهم وتقصيرهم قبل المعركة، أو لذنوبهم وتقصيرهم في ساحة المعركة، أو يؤخر الله النصر ابتلاءً لأهل الحق وتثبيتًا لهم ونفيًا لخَبَثِهم، أو يؤخره لنصرٍ أكبرٍ شاملٍ قادمٍ، أو يؤخره لحكمةٍ يعلمها ولا نعلمها.

ضمن الله لأهل الحق المجاهدين في سبيله - إن هم استقاموا وأخلصوا - الأجر والثواب التام، ولم يضمن لهم النصر اللازم في كل معاركهم وجولاتها، لكن لا بد أن تكون الصورة هكذا: أهلٌ للحق مستقيمون مخلصون ثابتون في كل المراحل، أمام أهلٍ للباطل ظالمين فاسدين.

ضمن الله لأهل الحق المجاهدين في سبيله - إن هم استقاموا وأخلصوا - الأجر والثواب التام، ولم يضمن لهم النصر اللازم في كل معاركهم وجولاتها

فالشروط الواجب توافرها في أهل الحق حتى يكونوا أهلًا للحق، أن يكونوا مستقيمين مخلصين قبل المعركة وأثناءها وبعدها، فإن هم دخلوا معركة مستقيمين مخلصين، ثم انحرفوا أو دخلهم الدَخَن في أثناء المعركة، فهم حينها ليسوا أهل حقٍّ، ولكنهم أهل حقٍّ زاغوا وضلوا، وإن هم دخلوا المعركة مستقيمين مخلصين، ثم انتهت المعركة بالنصر أو بالهزيمة، ثم انحرفوا أو دخلهم الدَخَن بعد انتهاء المعركة، فهم حينها ليسوا أهل حقٍّ، ولكنهم أهل حق زاغوا وضلوا.

إن الله لا يقبل الصلاح والإخلاص فيه إلا أن يكون تامًا من الأول إلى الآخر، أما أن تشوب أهلَ الحق الشوائبُ، في أية مرحلة من المراحل، فهو ما الله غني عنه.

وهزيمة أهل الحق أمام أهل الباطل ليست دليلًا مطلقا على فسادهم أو باطلهم، فكم من أهلِ حقٍّ انهزموا أمام أهلِ باطلٍ على مدار التاريخ، ولنا في قصص الأنبياء عبرة وعظة، فقد أرسل الله إلى أنبياء كثيرين، على مدار تاريخ الإنسان على الأرض، ولم يؤمن بالكثيرين منهم أي أحد، وبعضهم آمن بهم القليلون، ثم عاداهم الكافرون، وقتلوهم هم ومن آمنوا معهم، وعدد الأنبياء الذين قتلهم أقوامهم كثيرٌ جدا، ولذلك وصف بنو إسرائيل بـ قتلة الأنبياء.

الهزيمة في أرض المعركة ليست دليلا على حق الفريق المنتصر وباطل الفريق المنهزم، لكن، ماذا بعد المعركة؟!

الهزيمة في أرض المعركة ليست دليلا على حق الفريق المنتصر وباطل الفريق المنهزم، لكن، ماذا بعد المعركة

نُقل عن أحد الدعاة المشاهير أنه قال: إذا طالت المعركة بين حق وباطل ولم ينتصر الحق، فاعلم أن الحق فيها ليس حقًا خالصًا وأن الباطل فيها ليس باطلًا خالصًا، لا أعلم مدى صدق النقل عن ذلك الداعية الشهير، ولكن بصرف النظر عن ذلك، فإن هذه الكلمة ليست دقيقة، المعركة بين الصليبيين والمسلمين في الحروب الصليبية طالت لعشرات السنين، ولا يجادل أحد في أن المسلمين كانوا أهل حق، وكان الصليبيون أهل باطل وطمع وفساد.

والمعركة بين المجاهدين الجزائريين والمحتلين الفرنسيين طالت لعشرات السنوات كذلك، والمعركة الدائرة الآن بين الفلسطينيين والمحتلين الصهاينة عمرها عشرات السنوات، ولم ينتصر فيها الفلسطينيون أهلُ الحق بعد.

المعارك بكيفيتها ومآلاتها ليست دليلا على شيء، وإن انتصر فيها من انتصر، وهُزم فيها من هزم.

المعارك بكيفيتها ومآلاتها ليست دليلا على شيء، وإن انتصر فيها من انتصر، وهُزم فيها من هزم

لكن، لنا مع ما بعد المعارك كلام وكلام، فالمفروض أن يبقى أهل الحق على حقهم مستقيمين مخلصين ثابتين، حتى وإن طالت معركتهم مع أهل الباطل لعشرات السنوات، فلا يقدح هذا حينها فيهم من أية ناحية، إلا أن نرى أنهم كلما طالت بهم السنون زادت خلافاتهم وانشقاقاتهم، وتفرغوا لحرب بعضهم البعض أكثر من حرب عدوهم.
وحينها فقط، نجزم قاطعين أنهم لم يعودوا أهلا للحق كما ينبغي، فقد تغيرت قلوبهم، وهزمهم الشيطان هزيمة فاقت هزيمة عدوهم لهم في معركتهم معه.

عندما نجد مجاهدين بالسلاح، في أرضِ معركةٍ، لا ينجحون في هزيمة عدوهم، ثم لما طال بهم الصراع، انقلبوا على أنفسهم، وأصبحوا يعادون ويقاتلون بعضهم، أكثر مما يعادون ويقاتلون العدو، فهؤلاء أهل حق، قد دخلهم الدَخَن.

وعندما نجد معارضين لنظام عسكري منقلب، لا ينجحون في كسر انقلاب عدوهم، ثم لما طال بهم الصراع، انقلبوا على أنفسهم، وأصبحوا يتشرذمون وينقسمون كل يوم، ويهاجمون ويُشهرون ببعضهم، أكثر مما يهاجمون ويُشهرون بعدوهم، فهؤلاء أهل حق، قد طالهم الدَخَن.

من الممكن أن ينصر الله حقًا فيه دَخَن على باطلٍ ظالمٍ فاجرٍ، ولكنّ نصر الله لذلك الحق المدخون حينها، لا ينفي عنه دَخَنه، ولا يعني أن الله سيقبله أو يرضى به؛ فالله لا يقبل إلا ما كان مستقيمًا خالصًا تامًا، وهو أغنى الشركاء عن الشرك.

الفتنة لا تؤمن على أحياء، والفتنة تُخشى أكثر ما تخشى على أهل الحق، لأن عمل الشياطين في إضلالهم وإفساد قلوبهم هو أهم عمل لهم، ولمثل هؤلاء تتفرغ الشياطين وتجتهد، فيدخل الرجل المستقيم المخلص ساحة الجهاد، ثم لا يلبث أن يتغير فيها ويُفتن، فإذا دخل ساحة الجهاد وخرج منها مستقيمًا مخلصًا لا يلبث أن يتغير ويُفتن بعدها، إن هو هُزم يتغير ويُفتن بهزيمته يأسًا وقنوطًا واستعجالًا للنصر، وإن هو انتصر يتغير ويُفتن بانتصاره التفاتًا للغنائم وطمعًا في المكانة وحبًا للسيادة والظهور.

رحم الله أولئك المستقيمين المخلصين الثابتين إلى يوم لقاء ربهم، وعقدهم مع الله واضحٌ لا لبس فيه، عليهم في العقدِ عملٌ وجهادٌ وإخلاصٌ وثباتٌ، ولهم من الله الآخرة ونعيمها، وإن أعطاهم الدنيا معها فبها ونعمت، وعليهم حينها دوام العمل والجهاد والإخلاص والثبات دون زيغ وحيد، وإن منع عنهم الدنيا فليس عليهم، إلا العمل والجهاد والإخلاص والثبات دون زيغ وحيد، وأجرهم الكامل عند الله في الآخرة، وأولئك هم أهل الله لا غير.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …