أربكت الانتصارات التي حققتها طالبان العالم بعد عشرين عاما من بداية إعلانها الحرب على النظام العميل بأفغانستان بعدما استطاعت أن تواجه أعتى الجيوش النظامية وتجبرها على الخروج من البلاد في الموعد المحدد مسبقًا.
ليس هذا فقط، بل وغيرت المعادلة الدولية في التعامل مع دول العالم الثالث عامة والمسلمين خاصة من جانب تغيير موازين القوى، والاعتراف بوسيلة جديدة لأصحاب الحقوق، ألا وهي استخدام القوة لانتزاع حقوقهم، تأكيدًا للحقيقة التي تؤكدها أحداث التاريخ أنه لا اعتراف إلا بالأقوياء، ولا رفق إلا بمن يستطيع الدفاع عن ذاته وحريته وإرادته، ولا احترام إلا لأولئك الذين يفرضون كلمتهم باللغة التي يتقنها العالم وقت الحدث.
وفي الوقت الذي تقترب فيه طالبان من إعلان حكومتها التي يترقبها العالم، تستطيع تسيير حركة طيران داخلية محدودة بالرغم من التخريب المتعمد والغريب من القوات الأمريكية المنسحبة من البلاد، في انتصار آخر تسطره في أول عهد لتسلمها السلطة.
وتلعب دولة قطر الدور الأكبر والنوعي في الوساطة بين العالمين الأمريكي والغربي وبين كابول، في إشارة لتغيير الخارطة السياسية العربية لتتأخر أنظمة وتتقدم أخرى، وتصير مفردات كالشقيقة الكبرى خبرًا بعد عين، لترسل رسالة أخرى، بأنه لا ثوابت في عالم السياسة، وأن الكبير والصغير له محددات تفرضها طبيعة التعامل مع الآخر، وتنطلق من قناعة التمترس بالشعوب وتقزيم الوطن داخليًا أو النهوض به، فتغيب العواصم الأكبر مساحة، والأكثر عددًا، وتحضر أخرى أكثر عدلًا واحترامًا لشعوبها.
وينسحب على الجماعات والأحزاب والهيئات والمؤسسات ما ينسحب على الدول والسياسات الدولية في القضايا الكبرى؛ فعلى صعيد آخر -وبعد ما يقرب من مائة عام من تأسيسها- تمر جماعة الإخوان المسلمين بحالة من الركود غير المسبوق، أو بكائية جديدة تضاف إلى أدبياتها السابقة منذ الانقلاب العسكري في يوليو 2013، وتحدث أكبر عملية انقسام في تاريخها لتدخل منذ العام 2015 وحتى اليوم في حالة من البيات الشتوي وتجمد الموقف على ما هو عليه؛ فقد توقفت آخر فعاليات الثورة المصرية بقرار مجهول المصدر والسبب، وتدخل في دائرة الخسارة المركبة.
فمثلًا، تتجمد ملفات مهمة كملف المعتقلين والمهاجرين والشرعية والقيادة والمطاردين بالداخل والإعدامات ثم الشرعية التي انتهى الحديث عنها منذ رحيل الرئيس محمد مرسي رحمه الله.
ولم يتوقف الأمر عند وأد فكرة الثورة في حد ذاتها بتفسير فكرة السلمية التي نادى بها مرشدها من فوق منصة رابعة، والذي فسره بالحراك السلمي لإسقاط الانقلاب وبأن كل ما دون الرصاص سلمية، إلى القعود التام وانتظار تدخل سماوي للنصر والتمكين على حد قول خطابهم الإعلامي.
بل امتد الأمر لغلق فكرة التغيير الداخلي للجماعة، بعد اتساع هوة الانقسام، وإغلاق ملف المصالحة الداخلية تمامًا وعدم الاعتراف به من الأساس، وكأن من خرجوا منها كانوا مجرد أشباح لا اسم لها ولا صفة ولا عمل.
واستمر المكتب المنتهية ولايته في الإدارة الوقفية على فكرة الصبر والثبات، واستخدام اللوائح في تهديد كل من يحاول الخروج على صمته بوجوب تحريك الملفات العالقة خاصة المعتقلين منها، والخروج من المربع الصفري الذي استقرت به الجماعة بعد تضحيات كبيرة في مقابل لا شيء.
ويتحرك العالم، وتتغير سياساته بما فيه السياسة التركية التي تؤوي معظم قيادات التنظيم، فتدير مفاوضات هنا، ومعاهدات هناك، وتخرج عن حالة العداء الإقليمي لاستيعاب حلفاء جدد من بينهم دولتي مصر والإمارات.
وباستقراء المنهج الإسلامي لكل من الحركتين اللتين أثارتا الكثير من الجدل، نجد أنه المنهج السني نفسه، بل وتجد أنهما تحملان نفس الفهم تجاه القضايا العامة التي تهم المسلمين، غير أن الاختلاف يظهر جليًا في الوسيلة المستخدمة للخلاص من حالة التخلف والرضوخ وقضايا الحريات والوصول إلى الحكم لتحقيق الأهداف المعلنة، فكانت النتائج مغايرة تماما بالواقع المعاش.
الاستخلاف والاستبدال، وبينهما أمور متشابهات:
قد يظن البعض أن تلك دعوة للعنف ونبذ السلمية، وكأن استخدام السلاح هو الحل الوحيد للوصول للحرية -وإن كان هو أحد السبل- ولكن الأمر ليس كذلك بالضرورة، ولا يجوز في السياسات أن يكون هناك طريق أحادي؛ فكما رأينا في سنوات معدودة كيف تغيرت السياسات الخارجية للعديد من الدول في المنطقة، ومن التزم الثبات فلا تكاد تسمع لها بين الأمم ذكرًا.
وإنما هذا الطرح يناقش نقطة في غاية الأهمية، وهي: لماذا نجحت طالبان ولم ينجح الإخوان المسلمون -في مصر وبعض البلدان- في تحقيق أهدافهم، ولو كان هذا الهدف أن يعيش أفرادها في أمان وقبول مجتمعي؟
وبينما أقر أن الطريق ليس هو العنف وحده، فإن أشكال الجهاد المفترضة على أية فئة مستضعفة لتحرير ذاتها -فضلا عن تحرير مجتمعاتها- متعددة، والطرق السلمية والسياسية كثيرة، وما يجوز في مجتمع لا يجوز في آخر؛ ففي فلسطين يكون لزامًا على حماس والفصائل التحررية الأخرى أن يكون لها جناحان؛ لأنها تواجه عدوًا معروفًا وواضحًا ويحمل مجازًا جنسية أخرى ويدين بدين آخر.
وكذلك الأمر في أفغانستان؛ حيث واجهت طالبان احتلالًا أمريكيًا غربيًا مكتمل الأركان علاوة على حرب المتعاونين (أو العملاء على وجه الدقة)، فكان لزامًا كذلك أن يكون لها جناح عسكري وآخر سياسي بامتياز؛ ليتمكن من خوض عالم السياسة والدبلوماسية والتفاوض يدًا بين مع تلك التي تحمل السلاح، فأجبرت المحتل على الخروج، ومد يد المفاوضات من ناحيات أخرى، فلم تخلّف حرب العشرين عامًا مجموعة من البدائيين أو الفوضويين، وإنما خلفت رجال دولة ورجال معارك.
والغريب أنه في الوقت الذي اكتفت فيه جماعة الإخوان المسلمين بتلقي الضربات، نجدها تتراجع في عملية بناء الرجال القادرين على أية ممارسة سياسية، بل وما زالت تمثل عامل طرد لكل تلك العقول المتوازنة والباحثة عن مخرج حقيقي من ذلك المنزلق التاريخي، وتتوقف عند التبرير لعملية السكون والجمود بحجة الحفاظ على التنظيم وأفراده، فلا بقي التنظيم، ولا هم حافظوا على أفراده.
والحقيقة التي قد يغفل عنها كثير من المنتسبين -بالرغم من أنه جزء من المنهج التربوي لتلك المؤسسة- هي أن النصر يرتبط بأسباب، وأن النجاح له سبل يجب السير فيها، وأن الجهاد له صورٌ شتى، منها ما هو بالكلمة، ومنها ما هو بالبندقية، منها ما هو سلمي، ومنها ما هو بالطرق النوعية، وكل مجتمع له ما يناسبه من سبل، لكن لا يوجد مجتمعات في أي قطر في العالم، ولا توجد قضية يناسبها أبدا السكون والرضوخ وانتظار الحل بفعل الزمن.
لقد وضع الله -عز وجل- شروطًا وسنن للنصر والاستخلاف في الأرض، والخروج على تلك السنن ومخالفتها يستوجب العقاب الجماعي، والذي يحسبه البعض ابتلاءً يستوجب الصبر، بينما هو في الحقيقة بلاءٌ خلفه الوقوف حيث يجب المسير، فهل يعي التنظيم تلك السنن الإلهية قبل الاستبدال الحتمي مع قرب انتهاء المائة عام الأولى من تاريخه دون نتيجة تذكر سوى المزيد من الخسارة؟
هل يدرك قادته أن استيعاب الأخوة بعضهم بعضًا هو خطوة أولى لتقبل المجتمع الخارجي لهم؟ هل يعي الصف الإخواني خاصة، وأعضاء الحركة الإسلامية عامة أن هناك فرقًا كبيرًا بين الابتلاء ومشقة طريق الجهاد والتضحيات الواجبة فيه، وبين البلاء المبين نتيجة التواري في مواجهة الأخطاء والقصور في تقديم الأسباب حتى وقوع الاستبدال؟