الحق والباطل … سورة الرعد

الرئيسية » بأقلامكم » الحق والباطل … سورة الرعد
reading quran

إن القضية الرئيسية التي تطرحها سورة الرعد هي الحق والباطل، وأن الحق أحق أن يُتّبع، وأن الباطل وإن ساد دهرا من الزمان فإن الغلبة للحق وأهله.

وتبدأ السورة بإنكار المشركين للوحي والرسالة، وتصف آيات الكتاب بالحق فيقول تعالى:" المر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ".

ثم تضرب السورة مثل الحق والباطل في قوله تعالى: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ".

وتفصيل المثل أن الماء النازل هو الهدى الرباني من السماء، وأن الأودية هي قلوب العباد فمنها ما يقبل هذا النور ويمتلأ به، ومنها من يعرض عنه فلا يدخل فيها من هذا النور شيء، وأما الزبد وهو ما يعلو الماء من الأوساخ والشوائب فهو الباطل الذي لو انتفش وظهر فترة من الزمن في صراعه أمام الحق فإن نهايته إلى زوال ثم لا يلبث الحق الذي ينفع الناس أن يستقر ويُمكّن له في الأرض.

وأما مثل النار، فإنها توقد على الحلي فتنصهر ثم ينفصل عنها ما كان فيها من الشوائب، التي تشوه المعدن النفيس، ففي أثناء الابتلاء والفتن يكون الباطل هو المنتفش الظاهر، في حين يكون الحق مغمورا، حتى اذا انتهى الابتلاء، وتميّز الخبيث من الطيّب، ذهب الخبيث، وبقي الطيّب في الأرض.

وبعد أن ضرب الله مثل الحق والباطل، بيّن صفات الذين استجابوا للحق والذين لم يستجيبوا: "لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ".

فيا فوز الذين استجابوا حين ظفروا بالجنة، و يا خسارة الذين لم يستجيبوا حين يتمنّون لو أن ّعندهم ملء الأرض ليفدوا أنفسهم به من عذاب جهنم.

ويقارن الله بين الفئتين "لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا" و "وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا"؟ فأما صفات الذين استجابوا وجزاؤهم فيقول تعالى: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ".

هي صفات إيمانية نورانية، فهم يوفون بعهدهم مع الله ومع الناس فلا ينقضون مواثيقهم ووعودهم، وهم يصلون ما أمر الله بوصله وتأتي "ما" هنا لتكون عامّة وشاملة، لوصل كل ما هم خير كالاتصال بالله بالذكر والصلاة والاتصال بالأرحام وذوي القربى ثم اتصال المؤمنين الذين تآلفت قلوبهم على الحق، وتؤكد السورة على أن يتحوّل الإيمان إلى سلوك وعمل، فهم يصبرون على قضاء الله بما فيه من ابتلاء ومحن، و ينفقون من أموالهم سرّاً وعلانية لا يبتغون إلا وجه الله، ويجمّلون سلوكهم بدرء السيئة وتقديم الحسنة عليها، فلا يردّون السيئة بمثلها.

في حين تأتي الصورة المقابلة للفريق الآخر: "وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ".

أولئك الذين يخونون عهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس، ويقطعون ولا يصلون، ويفسدون ولا يصلحون، لذا كان عاقبتهم اللعنة وسوء الدار في الجحيم المقيم.

ثم يثني الله على الذين آمنوا وهم أهل هدايته بتنزّل الطمأنينة في قلوبهم في كل حال وحين، هذه الطمأنينة الحقيقية التي لا تُستمد إلا من ذكر الله والأنس به:" الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ".

وتؤكد السورة في ختامها بشرية الرسل وأن الله هو من اصطفاهم لرسالته، وأنهم لا يأتون بالآيات من عند أنفسهم، فاستمر يا محمد في بيانك للحق فإنما عليك البلاغ وعلى الله الحساب وإنْ شئنا أريناك عذابهم في حياتك وإلا توفيناك قبل ذلك، فلله الأمر جميعا:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ".

وكأن هذه الخاتمة تلخص موضوع السورة، وهو أن الوحي هو الحق الذي جاء به كل الأنبياء والمرسلين وأنه ليس بالضرورة لكل داعية أن يرى ثمرة جهاده في الدنيا أو يظفر بالنصر الذي وعده الله: "وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ".

ولكنّ نتيجة الصراع بين الحق والباطل معروفة،فالأيام دول والعاقبة للمتقين، ولا معقّب لحكمه سبحانه:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ".

ومهما يمكر أهل الباطل فهم لا يعجزون الله، فإن الله لهم بالمرصاد يمكر بهم ويردّ كيدهم وسيجعل العقبى لعباده المؤمنين: "وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ".

وتنتهي السورة بشهادة الله العظيمة على رسالة محمد، وكفى بها من شهادة فهو من عنده علم الكتاب: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ".

هذا والله أعلم

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …