شهدت السنوات الأخيرة مجموعة من المتغيرات التي أثرت كثيرًا على ربما عدد يتجاوز مئات الآلاف إلى ملايين الشباب المسلم الذين كانوا يعملون في مساحات العمل الإسلامي المختلفة، بطول العالم وعرضه، من الدعوة، وحتى العمل السياسي.
ونخصص الحديث في هذا الموضع عن الشباب المسلم –في مختلف البلدان، ومن مختلف الجنسيات– الذين كانوا أو لا يزالون ينتمون إلى حركات إسلامية، أيَّا كانت هوياتها التنظيمية، ولاسيما في العالم العربي والإسلامي، بعد كل التطورات التي وقعت في السنوات الماضية، في سياق تطورات ثورات ما يُعرَف بـ"الربيع العربي".
وربما نوقشت مثل هذه القضايا في السنوات الماضية، إلا أنه على أهميتها، وعلى التطورات التي تحدث وتمسها؛ يصير من المهم مناقشتها بين حين وآخر، ولاسيما مع دخول أجيال شابة جديدة إلى ساحة العمل والنقاش على حد سواء، وفي ظل تعاظم التحديات التي يواجهها العمل الإسلامي، سواء الدعوي، أو السياسي، أو الاجتماعي.. إلخ، في مختلف مساقاته.
وفي حقيقة الأمر، فإن مصدر الحيرة يأتي من أكثر من اتجاه، من بينها الأزمات الداخلية التي تمر بها الحركة الإسلامية على مختلف تلاوينها، وظهور العديد من الظواهر الداخلية مما لا يتصور الصف العامل أنه قائم في مساحات تنظيمية تعمل لأغراض وغايات سامية، تتصل بالدعوة إلى الله تعالى، والتمكين لدينه.
الأمر الثاني، انغلاق الكثير من مساحات وقنوات العمل أمام الكثير من الشباب، بينما هم مؤهلون نفسيًّا وحركيًّا فقط للعمل والحركة في إطار فرق عمل، ووفق منظومة قيادية، توجِّه، وتحدد الأهداف وآليات العمل، واتجاهات الحركة والعمل المختلفة، وحتى التقييم؛ كان يخضع لرؤية هذه المنظومة من خلال رؤية شاملة تتعامل مع قنوات تزويد معلومات وتقدير مختلفة لا يكون الصَّفُّ العامل ملمًّا بكل تفاصيلها، وما تقدمه من بيانات وتقييمات.
وبالتالي؛ فإن الفرد لا يكون حتى على دراية –حتى لو أراد– بكيف يعمل، وكيف يُقيِّم ما يقوم به ونتائجه إذا ما عَمِل بمفرده، ناهينا عن أن ثقافة العمل الفردي غالبًا ما تكون غائبةً عنه، فيصيبه الشلل.
بطبيعة الحال؛ فإن الإطار الجماعي للعمل – وهذا قانون عمراني وضعه اللهُ تعالى في خلقه – يكون أكثر كفاءة وفاعلية، من خلال قانون "الكل أكبر من مجموع أجزائه"، كما أنه أكثر جاذبية –وهو بدوره جزء من سياقات الكفاءة والفاعلية– بسبب الصحبة، والجانب النفسي المتعلق بانتقال الحماسة للعمل من فرد لآخر، عندما يرى الآخرين يعملون بحماس وهمة عالية نابعَيْن من الإيمان بالفكرة، وبقيمة ما يقومون به.
إلا أن ثقافة العمل الفردي تظل هي الأساس في العمل والفعل، وهذا أمر علمي تمامًا يقره علم الاجتماع الإنساني، وقواعده التي تنبثق –كذلك– من قوانين وضعها اللهُ تعالى في خلقه.
فالأصل في الإنسان، أنه يحيا حياةً طبيعيةً، فردًا، أو في أسرة، أو في سياق اجتماعي محدود، وبالتالي؛ فإن الإنسان إذا ما أراد فعل الخيرات؛ فإنه –في الغالب– يقوم بذلك بمفرده، ومن خلال سلوكيات ونوعيات عمل فطرية، مثل مساعدة إنسان مُسنٍّ في عبور الطريق، أو التبرع لمشروع خيري، أو حتى إماطة الأذى عن الطريق، وحسن معاملة الآخرين.
صحيح أن العمل الجماعي، سواء في إطار مؤسسة، أو في إطار جماعة، أو أي إطار منظم يشمل عددًا من الأفراد يعملون وفق رؤية موحدة، وفي سياق واحد، أكثر فاعلية، لكن يبقى العمل الفردي، هو أساس حركة الإنسان في هذه الحياة.
وبالتالي؛ فإنه –ربما– من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الكيانات الحركية الإسلامية، أنها لم تعمل على غرس هذه الثقافة في نفوس الأفراد.
وهذا الأمر يختلف عن فكرة "توظيف الفرد في محيطه" المجتمعي أو المهني التي تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية، أو حتى الاجتماعية والدينية الأخرى، حتى الشيوعية منها؛ حيث إن هذه الفكرة، تتم –كذلك– في إطار حركي؛ يتم فيه تلقين الأفراد بخطط جماعية، يقوم فيها الفرد بدوره، ووفق رؤية تنظيمية جماعية شاملة، لكنها بعيدةً عن فكرة المبادرة الذاتية، الفردية، للعمل الخيِّر، إسلامي كان أو غير إسلامي الهدف.
وهو أمرٌ نراه واضحًا في المجتمعات التي تحكمها حكومات وأنظمة شمولية؛ أي لها امتداد رأسي –أي مؤسسي وتخصصي– وأفقي –أي جغرافي– في مختلف أركان الدولة، وتسيطر على مختلف مفاصله؛ حيث إن نجاح أو فشل الفرد لا يعود إلى قدراته أو مبادراته، وإنما يعود إلى مدى نجاح وفاعلية أو فشل وركود السياسات والخطط التي تتبناها الدولة، وتفرضها عليه.
وفي هذه المجتمعات، وفي حالات نادرة؛ تتم محاربتها بشراسة، ربما نجد فردًا ينجح حيث يفشل الآخرون، لأنه تعامل وفق منطق العمل أو المبادرة الفردية الذاتية، وبالتالي؛ فهو يشذُّ –بالنسبة لحكومات هذه الدول– عن القطيع المطلوب أن يكونه الناس، أو يثبت فشل سياسات هذه الأنظمة والحكومات، فتتم محاربته والقضاء عليه.
وهو أمر من المهم للغاية أن تبتعد عنه الحركات الإسلامية، لاعتبارات أخلاقية أولاً، ولاعتبارات موضوعية ثانيًا؛ حيث إن في ذلك جزءًا كبيرًا من عوامل نجاحها هي ذاتها.
فتشجيع المبادرات الفردية بمعناها العلمي –لا العمل الفردي في الإطار الجماعي وخططه– يضمن أن يكون الفرد فعالاً بدرجة أكبر بكثير، وربما يجد في نفسه المزيد من الحماسة للعمل، ضمن مبدأ تحقيق الذات، والذي هو أرقى درجات سُلَّم الاحتياجات الإنسانية.
كما أنه في سعيه الفردي هذا، قد يقف على ما لا تراه الجماعة أو الحركة، التي هي في النهاية، بقياداتها، جهد بشري؛ عرضةً للقصور والخطأ، وعرضةً لتجاوز الكثير من الأمور في رؤيتها، وهنا يظهر دور الفرد الفعَّال ذاتيًّا؛ حيث يمكن له تقديم الكثير من المقترحات والرؤى المفيدة، حتى بمجالات عمل غير مطروقة.
ربما لا نكون مبالغين لو قلنا إن الحركة الإسلامية في السنوات الأخيرة، وقعت في الكثير من الأخطاء، كان من أهمها تقييد روح المبادرة الفردية، بالرغم من أدبياتها التأسيسية تتضمن الكثير من الكتابات حول أهمية ذلك، بل وضرورته.
وهو أمرٌ من أسوأ ما يكون في كيان مؤسسي –حتى على مستوى المؤسسات الاقتصادية والشركات العادية– حيث يقود إلى التكلُّس والجهود في غالب الأحيان.
فلا ينبغي لاعتبارات الانضباط التنظيمي أن تقود إلى هذه الحالة، والتي تقود بدورها إلى انفكاك الكثير من الكفاءات من الإطار التنظيمي نفسه، وتفويت فرص كثيرة للعمل، ومساحات للحركة أمام هذه الجماعة أو تلك.