"فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ" (النساء: من الآية 3).
إن الزواج آية من آيات الله تعالى شرعها المولى عز وجل وأحاطها بكل تفاصيلها ودقائقها ليضمن نجاحها واستمراريتها، وليضمن أن تظل العلاقة بين الزوجين قائمة على المودة والرحمة، وفي حالة استحالة العِشرة بين الزوجين شرَّع ما يجب اتباعه ليكون الانفصال بين الزوجين بالمعروف.
إن الزواج في شريعتنا الغرَّاء إنما شرعه الله تعالى لعدة مقاصد، منها:
1- طاعة الله ورسوله، وتحقيق العبودية الخالصة البعيدة عن الرهبانية والتبتل.
2- العفة والإحصان عن طريق إشباع الغريزة الجنسية بطريقة شرعية ونظيفة.
3- كسب الحسنات "وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" (صحيح مسلم). وكما يُقال: "من تزوَّجَ فقدِ استَكملَ نصفَ الإيمانِ فليتَّقِ اللَّهَ في الشَّطرِ الآخَرِ".
4- تحصيل البركة "ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ" (سنن الترمذي).
5- حفظ النوع، واستمرار الحياة، وعِمارة الأرض.
6- تأسيس بيت على المودة والرحمة، والتعاون، وتحمل المسئولية.
7- تقوية الصلات بين طوائف المجتمع من خلال الأنساب والمصاهرة.
8- صيانة النفس من الفواحش والمنكرات، وحماية المجتمع من الرذائل والموبقات.
وإذا تم الزواج ولم تتحقق مقاصده كاملة أو بعضها شرَّع الإسلام إما التعدد أو الطلاق، وكل حالة تقدَّر بقدرها في ضوء ما جاء به الشرع، دون جَور ولا تعسف ولا هضم للحقوق. قال تعالى: "فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" (البقرة: من الآية 229).
بعد كل هذا نجد من يفكِّرون بعقلية (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ) فتراهم يتمسَّكون بقوله تعالى (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) ويقولون بأن الإسلام ظلم المرأة بتعدد الزوجات، ويخدعون بذلك البسطاء ضِعاف الثقافة، والمُثقفين محدودي الفهم، من خلال ندواتهم ومؤتمراتهم، ومرثيات وبكائيات لا يكفون عنها ولا يملون منها!
إن أدعياء الفهم الذين يزعمون أنهم من أنصار المرأة والمدافعين عن حقوقها لو علموا سبب نزول هذه الآية لذابوا خجلاً من ضحالة فهمهم وسطحية تفكيرهم وعدم معرفتهم بالدين.
قال الحسن في سبب نزول هذه الآية: "كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخله غريب فيشاركه في مالها، ثم يُسيء صحبتها ويتربص بها أن تموت ويرثها، فعاب الله تعالى ذلك، وأنزل الله هذه الآية" اهـ.
ألا يعلم هؤلاء البلهاء السذج أن الله تعالى عندما أباح التعدد قد ربط هذا التعدد بشرط العدل بين الزوجات عدلاً لا جنف فيه ولا إثم!
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يُستحب أن لا يزيد الرجل في النكاح على امرأة واحدة من غير حاجة ظاهرة، إن حصل بها الإعفاف لما في الزيادة على الواحدة من التعرض للمُحرَّم، قال الله تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ } وقال رسول الله ﷺ " من كان له امرأتانِ، يميلُ لإحداهُما على الأُخرى، جاء يومَ القيامةِ، أحدُ شقيْهِ مائلٌ" (صحيح النسائي)" اهـ.
يقول الإمام السعدي في تفسيره: "ومع هذا فإنما يُباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم، ووثق بالقيام بحقوقهن. فإن خاف شيئًا من هذا فليقتصر على واحدة" اهـ.
أولاً: تعدد الزوجات قبل الإسلام
إننا لكي نحكم على (تعدد الزوجات في الإسلام) لابد أن نتعرف على حال الأديان الأخرى مع هذه القضية لكي يكون حكمنا مُنصفاً، ولكي لا نكون كالأعمى الذي وصف الفيل من خلال الجزء الذي وقعت عليه يده!
إن الأديان قبل الإسلام كانت تسمح للرجل أن يتزوج أي عدد من النساء دون قيد، وإذا اعترضت المرأة أو أبدت رأياً في هذه المسألة يقوم الرجل بتطليقها.
يقول ابنُ عاشور رحمه الله في تفسيره: "ولم يكن في الشَّرائع السَّالفة ولا في الجاهلية حدٌّ للزَّوجات، ولم يثبت أنْ جاء عيسى عليه السلام بتحديدٍ للتَّزوُّج" اهـ.
وجاء في كتاب "المرأة بين الفقه والقانون"، للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: "التَّعدُّد كان معروفاً في جميع البيئات قبل الإسلام، فلم يكن الإسلام أوَّل نظامٍ يُشَرِّع التَّعدُّد ويُقِرُّه، فهذه الظَّاهرة الاجتماعيَّة معروفةٌ عند الأُمم السَّابقة؛ إذْ كانت معروفة عند اليونان والرُّومان والبابليين والهنود وقدامى المصريين، كما عرفه الأوروبيُّون في العصور الوسطى؛ وكان لا يحدُّه عدد، ولا يقيِّده شرط، ولم يكن له هدفٌ إلاَّ قضاء الشَّهوة" اهـ.
وجاء في كتاب "المرأة في القرآن الكريم"، للأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله: "ويقول (نيوفيلد) في كتابه "قوانين الزَّواج عند العبرانيين": "إنَّ التَّلمود والتَّوراة معاً قد أباحا تعدُّد الزَّوجات على إطلاقه، وإنْ كان بعض الرَّبَّانيين ينصحون بالقصد في عدد الزَّوجات، وأنَّ قوانين البابليين وجيرانهم من الأُمم التي اختلط بها بنو إسرائيل، كانوا جميعاً على مثل هذه الشَّريعة من اتِّخاذ الزَّوجات والإماء" اهـ.
ثانياً: تعدد الزوجات عند اليهود
جاء في كتاب "المرأة بين الفقه والقانون"، للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: "وأمَّا الدِّيانة اليهودية، فكانت تُبيح التَّعدُّد بدون حَدٍّ، وكان لعددٍ من أنبياء اليهود زوجاتٌ كثيرات؛ فسليمان عليه السلام كان له سبعمائة امرأة من الحرائر، وثلاثمائة من الإماء، وفقاً لما ذُكِرَ في العهد القديم" اهـ.
وجاء في كتاب "تنظيم الإسلام للمجتمع" للشيخ أبو زهرة رحمه الله: "وجاء في التَّوراة إباحة الزَّواج بغير عدد محصور من النِّساء، إلاَّ أنَّ بعض أحبار اليهود حدَّد ذلك بثماني عشرة زوجة، وأنبياء التَّوراة جميعُهم كانت لهم زوجات كُثُر" اهـ.
ولمن لا يعرف، فإن كلام الحاخامات عند اليهود مُقدَّم على ما جاء في التوراة!
جاء في التلمود ما نصه: "التفت يا بني إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى" اهـ.
ولمن لا يعرف، فإنه في منتصف عام 2011م دعت مجموعة من النساء اليهوديات إلى السماح بتعدد الزوجات قانونياً في إسرائيل وذلك للحد من ارتفاع نسبة العنوسة.
وعقب (الحاخام شتاين) على ذلك بقوله "حسب التوراة، فيعقوب النبي، أبو الشعب اليهودي، تزوج أربع نساء، وجده إبراهيم تزوج اثنتين، وحفيده داود تزوج ثمانِ عشرة امرأة".
وأضاف (الحاخام شتاين) أن "السبب الحقيقي وراء منع تعدد الزوجات هو تهديد الكنيسة الأوروبية لليهود قبل ألف عام لمنع انتشار هذه العادة في أوروبا".
وفى أواخر عام 2016 أجازت الحاخامية الكبرى فى القدس برئاسة الحاخام الشرقي الأكبر السابق (شلومو عمار)، أباحت زواج الرجال من عدة زوجات شريطة أن تكون عقيدتهن اليهودية. وقيل أن السبب وراء إعلان هذة الفتوى هو لزيادة أعداد اليهود مقارنة بالفلسطينيين اللذين يمثلون خطرًا ديموجرافيا حقيقيًا بالنسبة لأعداد اليهود.
ثالثاً: تعدد الزوجات في المسيحية
يقول الأستاذ العقاد في كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه": وهذا ما يؤكِّده (وستر مارك) بقوله: "إنَّ تعدُّد الزَّوجات باعتراف الكنيسة بَقِيَ إلى القرن السَّابع عشر، وكان يتكرَّر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة" اهـ.
ويقول عبد التواب هيكل في كتابه "دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام": "وهكذا يُحلُّونه عاماً ويُحرِّمونه عاماً تَبَعاً لتقاليد الشُّعوب التي ينشرون فيها دينَهم، ففي الوثنيَّة الأوروبيَّة القديمة وجدوا شعوبَها يحرِّمون تعدُّد الزوجات فَحرَّموه، وفي الوثنيَّة الأفريقيَّة المُعاصرة وجدوا أهلَها على نظام التعدُّد فأباحوه، وسيظلُّون هكذا ما بين تحريمٍ وإباحةٍ يُحلُّون لِمَنْ يشاءون ويُحرِّمون على مَنْ يشاءون، ولن يَجِدَ الباطلُ مُستقراً، وبهذا يتأكَّد لكلِّ ذي عقلٍ أنَّه لا علاقة إطلاقاً للدِّين المسيحي بتحريم تعدُّد الزوجات، بل إنَّه يُبيحه تبعاً لأصله، وهو التَّوراة" اهـ.
طوائف (المورمون والأميش) المسيحية وتعدد الزوجات
هناك بعض الطوائف المسيحية ما زالت تمارس تعدد الزوجات إلى عصرنا هذا مثل طوائف (المورمون والأميش) بالولايات المتحدة الأمريكية.
يتركز وجود هذه الطوائف في ولايات (يوتا، ونيفادا، وأريزونا، وايومنغ)، ويبلغ عدد هذه الطوائف 16.1 مليون فرد في جميع أنحاء العالم حسب تعداد عام 2018م.
إن طوائف (المورمون والأميش) المسيحية يشجعون الزواج المبكر وتعدد الزوجات ولا يعترفون بوسائل تنظيم النسل.
ظل أعضاء هذه الطوائف المسيحية يُحاكمون بتهمة تعدد الزوجات إلى أن أقرّت لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي في مطلع أكتوبر 2020م مشروع قانون لولاية (يوتا) يهدف إلى إلغاء تجريم تعدّد الزيجات.
مما سبق نفهم أن منع التعدد في اليهودية والمسيحية ليس تشريعاً سماوياً ولكنه جاء بناء على فتاوى تم وضعها وقوانين تم إصدارها، وكلها ما أنزل الله بها من سلطان.
رابعاً: تعدد الزوجات في الجاهلية
لقد تعددت طرق الزواج في الجاهلية بطريقة تأباها الفطرة، ومن بين المُسميات التي أطلقوها على الزواج في الجاهلية (الاستبضاع، المخادنة، المضامدة، الشغار، المقت، البدل، الرهط، البعولة، المساهاة، أصحاب الرايات... الخ)، وكل هذه الأنواع امتهنت المرأة أيما امتهان، وأطلقت العنان للشهوات والموبقات وقلما وجدت حالات زواج نظيف حسب الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لذلك قال النبي ﷺ: "خَرجْتُ من نِكاحٍ، و لَمْ أخْرجْ من سِفاحٍ، من لَدُنْ آدَمَ إلى أن ولَدَنِي أبِي وأمِّي، لم يُصبْنِي من سِفاحِ الجاهِليةِ شيءٌ" (صحيح الجامع).
عن الحارث بن قيس رضي الله عنه قال: "أسلَمتُ وعندي ثمانِ نسوةٍ، فذَكرتُ ذلِكَ للنَّبيِّ ﷺ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: اختَر منْهنَّ أربعًا" (صحيح أبي داود).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ غيلانَ بنَ سلمةَ الثَّقفىَّ أسلمَ ولَهُ عشرُ نسوةٍ في الجاهليَّةِ فأسلمنَ معَهُ فأمرَهُ النَّبيُّ ﷺ أن يتخيَّرَ منْهنَّ أربعًا" (صحيح الترمذي).
إن الإسلام عندما جاء أنكر كل أشكال الزواج التي كانت سائدة في الجاهلية، ولم يُقر منها إلا الزواج بولي "لا نِكاحَ إلا بوليٍّ" (السنن الصغير للبيهقي بإسناد صحيح).
أخيراً أقول
إن الإسلام لم يبتدع التعدد ولم يستحسنه ولم يحث عليه حثاً مُطلقاً بل إن الإسلام قد (قيَّد التعدد كمَّاً) فجعل أقصاه أربعَ زوجات، و (قيَّد التعدد كيفاً) فشدَّد فيه على العدل بين الزَّوجات في كل ما يمكن تحقيق العدل فيه، من هنا نقول بأن تعدد الزوجات لا هو سيف على رقبة المرأة ولا هو نقيصة في حق الرجل.
إن الإسلام عندما شرع التعدد إنما شرعه لضرورة اجتماعية أو إنسانية، كالذي يتزوج بأخرى لكون زوجته عاقراً لا تنجب، أو لكون زوجته مريضة مرضاً يمنعها من أن تعفه، أو لضرورة شرعية أخرى (وكل حالة تقدَّر بقدرها).
إن التعدد في كل هذه الحالات يحمي المجتمع من زيادة عدد المطلقات، ويحميه من زيادة عدد العنوسة، ويحميه من اتخاذ الخليلات وانتشار الفاحشة وما يترتب على كل ذلك من جرائم وموبقات.
من هنا نفهم أن الإسلام قد هذَّب تعدُّد الزَّوجات وأحاطه بقيود وشروط تجعل نفعَه أكثر من ضره، وخيره أكثر من شرِّه، وسلَكَ به طريقاً وسطاً تستقيم معه الحياة وينصلح به حال المجتمع.
وبعد هذا الطرح اليسير تسقط الحملة الشعواء والافتراءات الكاذبة التي يشنُّها أعداء الإسلام الذين يفترون على الإسلام بُهتاناً وزوراً مُستغلين في ذلك هوى في نفوس المسئولين، وهشاشة تدين أدعياء الثقافة والتحرر، وقلة وعي العامة.