ذكرنا في الجزء السابق أن مفهوم الشغف هلامي المعالم في أذهان غالب الحالمين به، إلا أنّه عمومًا يتضمن العثور على مجال "اشتغال" يبعث فيك "حالة" جميلة من المتعة والرغبة والنشوة والمزاج وكافة مرادفات أُسْرة الهوى أو المشاعر "الإيجابية"، وإلى أن تجد ذلك الاشتغال الذي يبعث فيك تلك الحالة المنتشية أثناء عمله، لم تجد شغفك الحقيقي في الحياة بعد، فإذا تركنا الشغف جانبًا ونظرنا إلى ما يوقد فينا جَذوة تلك الحالة الجميلة والنشوة البهيجة في نمط حياتنا المعاصرة، نجد أنه ببساطة اتباع أهوائنا وتدليل نفوسنا وترويق أمزجتنا ، خاصة في ظل ضغوط دوامات العيش وساقية استيفاء طلبات المعيشة، التي لا تدع لنا فرصة بعدها للحياة، فلا نجد مفرًّا –ولا نفكر في البحث الجادّ عن مَفرّ- إلا "قتل" باقي الوقت وهَدر فائض الطاقة ما بين دوامة وأخرى، بأشكال السُّكر الروحي والخمور المعنويّة، من إدمان المشاهدة والخروج والتقليب العبثي في الإنترنت، وغيرها من أنـــواع اللهو والتلاهي، ظاهريًّا لنتناسى مرارة العمر المتسرّب منا في غير قيمة حقيقية ومضض الحياة الماضية بغير معنى يعنينا، وداخليًّا لنخمد أيّة أنفاس باقية لأنين المسؤولية فينا، ولنحجب عن أنفسنا أيّة فُرجَة يتسلل لنا منها نور يدعونا لمراجعة النظر في نهج الحياة وتقويم منهجها!
وفي عصر الازدهار الحضاري اليوم صارت النشوة والمزاجية في الحقيقة بضاعة استهلاكية رائجة ومربحة، بما تسخّره الرأسمالية والصناعية الحديثة من جهود حثيثة لتوفيرها في كلّ ثانية من الـ 24 ساعة يوميًّا: بدءًا من الطعام الجاهز والتسالي المعلّبة والمشروبات السريعة، للقنوات الفضائية والرقمية ونَهَم المشاهدة المفتوحة أونلاين، للمنتزهات والمجمعات التجارية والمقاهي العامة، والوقت المفتوح للنوم ثم القيلولة بعد النوم والغفوة قبل النوم... إلخ، حد أنّ كثيرًا من وظائف وأشغال اليوم لم تعد الحركيّة والنشاط يشغلان منها حيّزًا معتبرًا فوق 30% على أعلى تقدير، والباقي انزاح وراء المكاتب والكراسي والسلالم المتحركة والميكنة الحديثة... إلخ، فتخيل نوع النفسية التي تنشأ محمولة على أرائك الراحة وأجنحة الخمول، ومحفوفة بصواني الحلوى ونكهات المقرمشات، بلا جهد منها ولا شغل لها سوى التلقي السلبي والتشرّب الآلي: مشاهدة وسماعًا وأكلًا وشربًا، وليته على ذلك تَلقٍّ سلبي حقًّا، فالسَّلْبُ فيه نوع جد، لأنه يعني في اللغة الحِيازة والأخذ والنهب، لكنّ الحاصل هو تَلقٍّ خامل بليد بدون جهد حقيقي مبذول من الطرف المتلقي (اللهم إلا القرمشة والتسلّي).
صارت النشوة والمزاجية في الحقيقة بضاعة استهلاكية رائجة ومربحة، بما تسخّره الرأسمالية والصناعية الحديثة من جهود حثيثة لتوفيرها في كلّ ثانية من الـ 24 ساعة يوميًّا
ثمّ تخيّل مثل تلك النفسيّة التي ترعرعت على طعم ذلك الكساد الفكري والوجداني، ونشأت فيه من العمر ما نشأت، أنّى تحل عليها الإرادة أو تواتيها الرغبة أو يقع فيها الميل لأيّ "اشتغال" جاد في الحياة ، فيه بذل جهد "حقيقي" و"أصيل"، أي لا يتضمن قوالب الأشغــال الحياتية الروتينية والمفروضة علينا من الخارج أكثر منها نابعة من دواخلنا؟! سواء أسميته ذلك الاشتغال الشغف أو الرسالة أو أيّ مسمى يفيد المعنى! أنّى يَنتظِر مثل ذلك المُنتظِر أن يحضُرَه المزاج في غير السياق الذي عوَّده الحضور فيه أعوامًا مديدة؟ بل أيّ شغل في الحياة يمكن أن يكون طعمه كطعم الاستلقاء على الأريكة أمام التلفاز وفي أحضان التسالي؟!
إنّ مجرد فكرة بذل أيّ جهد حقيقي مفزعة ومهولة، ومجرد خاطر المبادرة بأيّ إنتاج أصيل لا تفرضه مسؤولية خارجية مُلِحّة عسيرٌ ومُنفِّر، لِمِثل هذا المزاج الذي انغمس في همود الراحــة وهذه النفسية التي اعتادت التلقي البليد، وإذا شبَّ ذلك المسكين عن طوق الهوى مرّة، وأخَذته حَمِيّة محاولة التمرّد على حياة الخمول الأجوف تلك، عاد طوق الهوى يُغويه بسهولة جدًا بعد قليل، كما تجتذب الأم الطفل إلى حضنها مهما جرى منها!
وبهذا ينكشف سر نكد انتظار شغف لا يحلّ أبدًا، وسراب طموح وهميّ لا يزيد الظمآن إلا عطشًا! بل ويتضح سرّ دراما المأساة وسرادقات الرثاء التي يُقيمها الهائمون وراء الشغف ويعلّقون حياتهم بانتظاره، فيُعفون أنفسهم بلعب دور الضحية والتعلق الكاذب بذلك الوهم من أيّة مسؤولية أو ملامة، ويصير ذنب العمر المُهدر معلّقًا بذِمّة الشغف الذي لم يتبدَّ والرسالة التي لم تتضح، والقَدَر الذي ظَلَم، والرزق الذي حُرِم! وربما يتمادى البعض وراء ذلك السراب حتى يشعر بأنّ التكليف مرفوع عنه حقيقة طالما أنه في "حالة ضلال"!
مراد الله منك ليس تخصّصًا تتقنه أو وظيفة تمتهنها أو طموحًا تبلغه أو محطة تصلها بعينها، بل هو شخص تكونه أينما تتوجه وحيثما تبلغ وعلى مدى ما تحيا: عبدًا مسلمًا
وإذا كان الميل والرغبة الدافِعَان لممارسة أمر ما من علامات الموهبة، وهما معتبران لا إشكال فيهما بذاتيهما، فالإشكال يبدأ عند إعلائهما من رتبة قيم مُعتبرة ومؤثرة في الحركة للقيم الحاكمة (بالألف واللام) على الحركة كما سبق بيانه، فثمة فرق بين "اعتبار" الميل والرغبات دوافع مشروعة أو محمودة في اختيارات الحيــاة، واتخاذهما "الاعتبار" بالألف واللام في حركة الحياة. فلا تضيّق على نفسك ما وسّع الله عليك من ابتغاء وجهه، ولا تضيّع عمرك في النواح على ما لم يكن فتَعمى عما هو كائن، ولا تنكفئ في الحسرة على المفقود حتى تجحد الموجود ، وإنّ مراد الله منك ليس تخصّصًا تتقنه أو وظيفة تمتهنها أو طموحًا تبلغه أو محطة تصلها بعينها، بل هو شخص تكونه أينما تتوجه وحيثما تبلغ وعلى مدى ما تحيا: عبدًا مسلمًا .