سورة الكهف هي صراع بين المادة والقيم، حيث يعلو هذه الأيام صوت المصلحة الفردية والسعي للسلطة والجاه، والتحكم بالموارد وأسباب القوة، والاستمتاع المفرط بالشهوات والكماليّات والذي أصبح سمة الدولة الحديثة، فتأتي السورة لترسي قواعد التوازن بين المادة والقيم، فتهذّب النفس وتزكّي الروح وتتعاطى مع الماديّات بقواعد ضابطة من القيم والأخلاق.
ولن يكون هذا المنهج إلا في ظلال القرآن، الذي هو الدستور الذي لا عوج فيه كما تصفه أول آية في هذه السورة: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ".
ثم تشرع السورة في وصف الدنيا ومتاعها بالزينة وأنها دار ابتلاء وليست دار خلود أو بقاء: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا *وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا".
وتضرب مثلا بقصة أصحاب الكهف الذين كما تقول بعض الروايات كانوا أبناء ذوات، وأهل جاه وسلطان، إلا أنهم تركوا جاههم وقومهم وما كانوا عليه من الزينة والمتاع، والشرك والكفر ليذهبوا إلى كهف في جبل، ويأووا فيه إلى عبادة الله ورحمته: "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا".
وقوله: "وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا".
وتأمل قوله تعالى: "يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ" وكأن كهفا مهجوراً تخيم فيه سكينة الإيمان وتسكنه نفس ٌمطمئنة خيرٌ من دنيا مبهرجة، يسودها الصخب والقلق لا تجد فيها النفس راحة ولا سكوناً.
ويجعل الله مبعث أهل الكهف بعد نومهم كل هذه السنين دليلا واضحا على قدرته على البعث وإحياء الموتى: "وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ".
ليذكّر كل عاقل لبيب أن هذه الدار الدنيا ليست بدار مستقر وأنه مهما جمعت فيها من الماديات واستمعت فيها من الشهوات فإن هناك موعداً قادما لا محالة تنتقل بعده إلى دارٍ أخرى تُحاسب فيها على أخطائك ونزواتك، وتُجازى بها، فأولى لك أن تتمهّل وتعيد حساباتك، لتسلك سبيل النجاة.
إن سكينة النفس وطمأنينة الروح وسط زحام الماديات وطغيانها لن تجده إلا في التوجه إلى واحة القرآن: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا".
وإنك أيها الانسان مهما امتلكت من أسباب القوة والسلطان في هذه الحياة فأنت خاضع لسلطان الله وتحت مشيئته، فعُـدْ إليه واطلب منه أن يهديك إلى الرشد وسواء السبيل: "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ".
وتقرّر السورة موازين الناس وأن قيمة الإنسان ليست بما يملك من مال أو جاه، بل بما يحمل في قلبه من الإيمان، وما يتحلى به من القيم والأخلاق، ولذلك يأمر الله نبيّه في هذه السورة أن يلزم صحبة المؤمنين الصادقين وإن كانوا من الفقراء أو المستضعفين: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا".
وتأمل وصف هذه الصحبة المؤمنة أنهم يريدون وجه الله ولا يطمعون في زينة الدنيا، في حين غيرهم ممن انغمس في ركام الدنيا قلبه غافل وهمّه مشتت، وأمره منفرط.
ثم تلفت الآيات الأنظار في السياق نفسه إلى ما أعد الله للمؤمنين من الزينة والمتاع الحقيقي في جنات النعيم وأنها الأحق بالنظر إليها والتعلّق بها من حطام الدنيا ومتعها الفانية: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ".
ومرة أخرى تعود السورة لتضرب مثلا لطغيان أصحاب المادة، واستعلائهم على عباد الله، وظنهم بأنفسهم أنهم أعلى الناس قدرا ومنزلة، فتذكر قصة صاحب الجنتين حين يقول: "وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا" بل ويمنّي نفسه أن ما سيكون له عند الله في الآخرة هو أكثر وأفضل: "وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا".
وفي مقابل ذلك يأتي صوت النفس المؤمنة التي تُرجع النعمة إلى منعمها، فتشكره عليها ولا تستعملها في الفساد او الطغيان على عباد الله: "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا".
وكي تعمّق السورة الزهد في الدنيا وتجعلها مطيّة للآخرة، وبذل أسبابها في إعلاء دين الله في الأرض بما يحقق الخير والعدل، يضرب مثلا لها كزرعٍ وإن أعجبك حسنه وجماله وثمره فسرعان ما ييبس ويصير حطاما هشّاً تذروه الرياح فتذهب معه كل الآمال والأحلام: "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ".
ثم تؤكد الآيات على رسوخ القيم والأخلاق وأن الصالحات من المعتقدات والأعمال هي الباقيات الخالدات التي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ".
وتذكر السورة تهديدا ووعيدا شديدا لمن ملك أسباب الدنيا ثم أساء التصرّف فيها، فعاث في الأرض فسادا وإفساداً، بأن مصيره إلى زوال، وأن هذه الحضارات المادية التي لا أساس لها من الإيمان والقيم ستندثر وتنتهي: "وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ".
وتُعلي السورة شأن العلم إذا كان قائما على القيم ومنفعة الناس، كما في قصة موسى عليه السلام حين بلغ العبد الصالح عند مجمع البحرين ليتعلم منه، فطلب منه العلم النافع الذي يهديه إلى الرشد في الأمور كلها: "قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا".
فليس العلم الذي يستأثر به الطغاة، فيستعبدون به الشعوب، ويقيمون دولتهم على أنقاض دول أخرى، هو العلم المطلوب أو المرغوب، بل هو الوبال والخراب، وأن هذه الدول والحضارات وإن سادت ردحا من الزمان فلن يُكتب لها الدوام وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثم تعرض السورة في آخرها نموذجا للانسجام بين المادة والقيم، والملك والحكم الصالح، في قصة ذي القرنين الذي ذلّل الله له الأسباب في الأرض شرقا وغربا فأخذ بها، وأسس ملكه على الحق والعدل كما وصفته الآيات في قوله تعالى: "قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا".
ويأتي ختام السورة ليؤكد على أساس كل دولة وحضارة، وأنه يقوم على ركنين اثنين هما: الأول الإيمان وعبادة الله فتكون لحكمه المرجعية في المنهج والدستور، والثاني عمارة الأرض بفعل الصالحات التي تنفع البلاد والعباد.
قال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ".
هذا والله أعلم