الطموح لا يعني المقارنة بالآخرين ومنافستهم

الرئيسية » خواطر تربوية » الطموح لا يعني المقارنة بالآخرين ومنافستهم
الطموح how-to-be-more-ambitious-and-achieve-success

لا علاقة على الحقيقة بين الطموح أو التفوق والمقارنة بالآخرين؛ إذ الطموح مرهون بداية بحس مسؤولية الفرد عن حياته وجديته في استثمارها وتعظيمه لشأن قيامه لربه يوم الحساب، ومرهون ثانيًا بطاقات المرء وسياقه وظروفه، ومرهون ثالثًا بالتوق والتطلع لذات المعالي، لا لذات الآخرين ولا لذات مطامحهم بعينها، والمعالي في هذا السياق وصف ينطبق على كل موصل لمرضاة الله وامتثال أمره في كونه، فأبوابها أكثر من أن تحصى على أساس ثُلّة مجالات مشهورة، وآفاقها أرحب من أن تقصر في بضع قوالب عرفية.

والاتكاء الكثير على لفظة التنافس واعتمادها أداة تربوية وصور تطبيقاتها السائدة، غالبها من أثر الثقافة الهجينة حقيقة وليست أصيلة عندنا، فلم ترد لفظة التنافس في القرآن إلا مرة واحدة، في قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وسوى ذلك استُعملت ألفاظ "المسابقة" و"المسارعة"، ودلالتهما غير دلالة التنافس، وسياقتهم جميعا –في القرآن والسنة- تدعو دعوة عامة للمسارعة في الخيرات إجمالا والمسابقة لرضوان الله بمختلف الصور، حيثما تبدى لكل أحد بما يستطيع، ولا تدعو أبدًا لعقد المقارنات المحمومة والسباقات المستميتة مع الغير على نحو ما يجري اليوم، بل جُلُّ ما تدعو إليه –وما لا نطبّقه حقيقة- أن تبذل من نفسك لنفسك، وتكون جادًّا في مسؤوليتك عن حياتك، نافعا ومنتفعا فيها، هذا هو تصور التفوّق المطلوب، سواء تجلّى بعد ذلك في ريادة قوم أو خدمتهم، وفي كثرة عَرَض أو زُهد حال، زُمَرا أو فرُادى... إلخ، أما اتخاذ أحوال من حولنا مقياسًا لتحديد نجاحنا أو فشلنا نحن، واتخاذ مسابقتهم للفوز والاستعلاء عليهم غاية، فتلك وجهة أخرى تمامًا، وفي غالب الأحيان لا تثمر الأثر المزعوم من التحفيز للترقي والدفع للمعالي، بل تورث الغِلّ والحسد والكَيد، والحسرة والقعود، والتشتت والتذبذب، وغيرها من الآفات القلبية النفسية التي لا تنتمي للمعالي بحال مهما حصَّل صاحبها عَرَضا من جاه ووجاهة.

الاتكاء الكثير على لفظة التنافس واعتمادها أداة تربوية وصور تطبيقاتها السائدة، غالبها من أثر الثقافة الهجينة حقيقة وليست أصيلة عندنا

وأردأ التربية ما تقوم على شحذ هِمّة النشء من خلال المقارنة بغيرهم أو تعتمد على تحفيزهم بإذكاء دافع التميز على أقرانهم؛ لأنها تربط أهم قيمتين داخليتين أساسًا "الدافع والهِمّة" بمعايير خارجية وموسميّة (وقت حضور الناس أو توافر متفوقين يثيرون حس التحدّي)، وتحوّل العملية التربوية من قصد تشكيل بنية الشخصية وصياغة هُوية الفرد في نفسه لعرض مسرحي عمومي غايته التفاخر والتباهي، وشتان بين تربية على نهج حياة وصياغة لشخصية ستنطبع على ما تعوّدت عليه في نفسها، وتربية على النظر للآخرين بمعيارية لا يستحقها ذلك الآخر غالبا، فيهمل الفرد صقل مهاراته وتوسعة علومه وعمران ذاته اكتفاء بعُلوّه على من حوله، وظنه بذلك أنه بلغ المنتهى! إذ طالما الأعور في بلد العميان يظل ملكا، فلماذا سيجازف بالخروج لأهل الإبصار فيَظهر عَوَره ؟ فلا عجب أن تنشأ أجيال على ظاهرة الانفصام بين ظاهر الحال وباطنه، وتعاكس العلانية أمام الناس مع السر في خلواتهم أو عقر دارهم، وأن يكون العيب أعلى قدرًا من الحرام ورؤية الخلق أشد رعاية من اطلاع الخالق، والإسقاطات الدعوية المعاصرة التي تكرّس لمفهوم التنافس بتلك الصورة، باستشهادات من قصص السلف والصحابة، أقل ما يقال عنها إنها لا تمت لحقيقة تلك السِّيَر بشيء لمن طالعها من مواردها الصحيحة وفي سياقها الكامل، وليست إلا ثمار ترقيع سطحي وفهم ساذج وتسويق تجاري للتدين الحداثي.

تأمل هذه المفارقات ليتضح البيان:

طالب متفوق دراسيا طوال الموسم المدرسي، ثم لا يكاد ينفصل عن الكنبة في الإجازة الصيفية ولا يتزحزح من أمام التلفاز، أوليس قد حصل "ختم" تفوقه "مقارنة" بغيره، فما أهمية أن يكون هو في نفسه جادًّا أو يجتهد حيث لا مصفقين؟ بل إن ذلك المتفوق لعله "يكره" القراءة والعلم، ويتلكأ في الفراش ساعات فوق نوم الحاجة خمولا وكسلا وفراغا، ويساق للصلوات سوقا على مضض، ويتحين الفرص لتضييع ورد القرآن... فعن أي تفوّق نتحدث؟ وأي طموح للمعالي يرتجى من نفس انطبعت على ذلك النهج؟

صار الرسوخ العلمي تراثا أسطوريا، حظّنا منه اليوم تنشئة الأطفال على "تكويم" الدرجات، و"تجميع" الشهادات، وحصد الثناء، فإذا تم ذلك عد هذا التفوق العلمي المنشود

صار الرسوخ العلمي تراثًا أسطوريا، حظّنا منه اليوم تنشئة الأطفال على "تكويم" الدرجات، و"تجميع" الشهادات، وحصد الثناء، فإذا حصل ذلك عد هذا التفوق العلمي المنشود، فهل من عجب بعد ذلك أن غالب المتفوقين على مدى سنوات الدراسة، هم أول من يتعثرون على أعتاب المتطلبات الجامعية أو المسار المهني؟ إذ يكتشفون أن طاقاتهم الخارقة في الحفظ الأصم والتفريغ السريع في الامتحان لا تكفي لإنشاء مقالة سليمة اللغة جيدة الأسلوب ولا لفهم متطلبات البحث العلمي ولا لاستيعاب تداخلات العلوم وتطبيقاتها، بل ولا تدفع عجلتهم بعد ذلك في طابور المتنافسين على مهنة، كل المتقدمين لها حملة "شهادات" بالفعل، والتفرقة الوحيدة بينهم تكمن فيمن تحمله شهادته بما حصّل من نتائج رقمية تكفي لتنقله بين السنوات الدراسية، ومن يحمل هو شهادته بما تمكَّن من تخصصه وتوسّع في مهاراته المتعلقة!

أسلوب المقارنة الشائع في المدارس وبين الإخوة من أسوأ الأساليب في التعليم وأبعدها عن النفع التربوي

ومن ثَمَّ فأسلوب المقارنة الشائع في المدارس وبين الإخوة من أسوأ الأساليب في التعليم وأبعدها عن النفع التربوي؛ لأن ألقاب "الطالب الأمثل" أو "الأول" أو "الأحسن" أو غيرها من "أفعل" التفضيل، ترسل رسائل نفسية لغير الحائزين عليه بأن ذلك الفرد أو الأفراد الفائزين قد احتكروا أسباب الفضائل، وبالتالي لم يعد لهم سوى القوالب العكسية من الفوضى والمشاغبة أو البلادة والكسل! ومن ثم يتجهون لترسيخ هذا الصفات السلبية في أنفسهم من باب "العناد" تارة، ومن باب اللامبالاة والاكتراث تارة أخرى، والمنشأ في كلتا الحالتين هبوط نفسي في استشعار قيمة الذات بوصفه فردا أكرمه الله بالوجود وامتحنه به، وفي استشعار أواصر الترحاب والانتماء الاجتماعي الذي يشجع الفرد أن يسمو بفرديته لصالح المجموع - الذي هو منهم، أما الأسلوب التربوي النبوي فنجد أنه يقر لكل فرد بميزته، ويحلل كل شخص على أنه نسيج وحده، فإذا طالعت كتابا من كتب فضائل الصحابة، تكاد تشعر أن كل واحد هو "الأفضل"، وهذا مما يجعل النفوس تشعر بالتكاملية السوية دون حسد ولا غل، وتستجيش بينهم حس التعاون غير المتكلف.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …