الهجرة إلى الوطن “فريضة شرعية وضرورة بشرية”

الرئيسية » بصائر الفكر » الهجرة إلى الوطن “فريضة شرعية وضرورة بشرية”
The-most-beautiful-20-short-words-touching-on-patriotism

كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملاً وعفرًا تستنشقه (الجاحظ)

الوطن كلمة لها جَرْس خاص في الآذان، وقبضة في القلوب وقشعريرة في الأبدان. هذه الكلمة كثيراً ما تغنَّى بها الشعراء وتفنَّن في ذكرها الأدباء وأصابت باللوعة والأسى الغرباء.

الوطن هواء وسماء، عُشب وماء، تراب وطين، ذكريات وحنين، ضحكات وآهات، أهل وأحباب، أبناء وأحفاد، أفراح وأتراح، عَبَرَات وابتسامات.

إن الوطن عبارة عن مزيج من كل شيء، يسْري في العروق، فإذا حُرِم منه الإنسان سار كالطفل الذي حُرم من حنان أمه فلا يجف له دمع ولا يهدأ له حال حتى يجتمع الشمل وتلتقي النظرات وتنسكب العبرات والزفرات فرحاً بذلك.

قال الغزالي رحمه الله: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مُستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".

وقال الحافظ الذهبي رحمه الله مُعدِّدًا بعضًا من محبوبات النبيِّ ﷺ: "وكان يحبُّ عائشة، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحبُّ سبطَيْه، ويحبُّ الحلواء والعسل، ويحبُّ جبل أُحُد، ويحبُّ وطنَه، ويحبُّ الأنصار" اهـ.

أولاً: قالوا عن الوطن

1- قال إبراهيم بن أدهم: "ما قاسيتُ فيما تركتُ شيئًا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان".
2- وقال ابن المبارك: "إنَّ من أقام في مدينة أربع سنين، فهو من أهلها".
3- وقال الرافعي القزويني: "ولولا نزوع النَّفس، إلى مسقط الرَّأس، ودائرة الميلاد، لم ينـزل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: من الآية 85].
4- وقال الأصمعيُّ: "قالت حكماء الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها، وإنْ كان عهدُها بعيدًا، والطيرُ إلى وَكْرِه، وإن كان موضعُه مُجدبًا، والإنسانُ إلى وطنه، وإن كان غيرُه أكثرَ له نفعًا"اهـ.
وقال أيضًا: "سمعتُ أعرابيًا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجلَ؛ فانظر كيف تحنُّنه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكاؤُه إلى ما مضى من زمانه" اهـ.

ثانياً: الإبعاد عن الوطن من أشد العقوبات على النفس

لقد ضرب النَّبي ﷺ أروعَ الأمثله في الانتماء للوطن وحب الأهل والعشيرة، ولم يتبادر إلى ذهن النَّبي ﷺ يوماً أنه سيُجبَر على مفارقة هذا الوطن.

عندما قال ورقة بن نوفل للنبي ﷺ: "لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ" (رواه البخاري).

قال السفيري رحمه الله: "قوله ﷺ: (أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟!): استفهام إنكاري على وجه التفجُّع والتألُّم؛ كأنه استبعد ﷺ أن يُخرجوه مِن حَرَم الله وجوار بيته، وبلدةِ أبيه إسماعيل من غير سبَب؛ فإنه ﷺ لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سببٌ يَقتضي إخراجًا، بل كانت منه المحاسن الظاهرات، والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات" اهـ.

لذلك كان من دعاء النبي ﷺ بعد أن هاجر للمدينة: "اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد" (صحيح البخاري).

ولأن الإبعاد عن الوطن من أشد العقوبات على النفس، نجد أن قوم لوط عليه السلام قد هددوه بقولهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167].

وهذا فرعون اللعين يُحَرِّض قومه ضد نبي الله موسى عليه السلام زاعماً أن موسى عليه السلام ما جاء إلا ليُخرجهم من أرضهم ويحرمهم من وطنهم، فـ: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {34} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 34-35].

من هنا كان إجلاء اليهود عن المدينة أقسى عقاب لهم على ما اقترفوه من إيذاء للمسلمين.

قال تعالى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:3].

ثالثاً: دعوها فإنها منتنة

إنَّ الانتماء وحبَّ الأوطان ليس مَدعاةً للانسلاخ من الدِّين أو التنازل عن قيمه ومبادئه، وليس مدعاة للذَّوبان في مجتمع قد طُمستْ فيه الهوية وضاعت فيه القيم، وليس مدعاةً لتقديم العصبية والقبَليَّة على العقيدة والدين .

عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَن قُتِلَ تَحْتَ رايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ" (صحيح مسلم).

من هنا نعلم أنه إذا وجدت العصبية وخِيف على الهوية الإسلامية فإن الإسلام في هذه الحالة لا يَعترف بالحدود الجغرافيَّة، ولا يعتبر الفوارق التي تقوم على الأعراق والجنسيات، ويعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدَتْ أقطاره، وتناءت حدوده.

إن البعد عن العصبية هو الذي صهر صُهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي في نفس البوتقة التي فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهو الذي أخرج أمة قوَّضت عروشاً وممالك ظنت أنها تستعصي على الفناء.

إذا وجدت العصبية وخِيف على الهوية الإسلامية فإن الإسلام في هذه الحالة لا يَعترف بالحدود الجغرافيَّة، ولا يعتبر الفوارق التي تقوم على الأعراق والجنسيات، ويعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدَتْ أقطاره، وتناءت حدوده

رابعاً: المفهوم الصحيح لمعنى الوطن

إن النبي ﷺ قد مكث ثلاثة عشر عامًا في مكة يدعو أهلها إلى الإسلام، فلم يؤمن معه إلا قلة قليلة من المُستضعفين، ونزر يسير من أصحاب القوة والنفوذ.

ولما عانى المسلمون ويلات الاضطهاد والتنكيل والقتل من أهل مكة كان الحل هو الهجرة.

هاجر النبي ﷺ مُكرهاً من وطنه الذي كذبه وآذاه، وارتحل هو ومن معه إلى المدينة المنورة، حيث رحَّب أهلها به وبدعوته، وأكرموه ﷺ وأصحابه أيَّما كرم، وآثروهم على أنفسهم أيَّما إيثار.

عن عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه أنَّهُ قال: "رأيتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ واقفًا على الحَزْوَرة فقالَ: واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ" (رواه الترمذي). * الحَزْوَرةُ: مُرتفِعٌ يُقابِلُ المَسعَى مِن جِهَةِ المشرِقِ، كان سُوقًاً مِن أسواقِ مكَّةَ.

بعد أن مرَّت ثمانية أعوام من الدعوة والجهاد في المدينة، وبعد أن أصبح للإسلام دولة واضحة المعالم ومُهابة الجانب، قرَّر النبي ﷺ أن يعود إلى مكة فاتحًا، وأمام قوة المسلمين حينئذ خضعت قريش كلها خضوعاً خضد شوكتها وأزال هيبتها وقطع دابر مُجرميها وأصبحت الكلمة الأولى في مكة للإسلام والمسلمين، لهذا كان فتح مكة فتحاً مُبيناً.

لقد كان بإمكان النبي ﷺ أن يظل في مكة مُستمتعاً بنشوة النصر والتمكين، ومُستعيداً لذكريات الطفولة والشباب والأهل والأصحاب، ولكنه ﷺ آثر العودة إلى المدينة المنورة، وطنه الحقيقي الذي آواه وصدَّقه وآمن به وأكرمه، ليعيش فيها البقية الباقية من حياته، ويموت ويُدفن بها.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ بالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ" (صحيح البخاري).

هكذا عبَّر النبي ﷺ عن مدى حبِّه للوطن، وعلَّمنا كيف يكون الانتماء بمفهومه الشامل والصحيح؛ فلا إفراط في حب الوطن يصِل لدرجة الغلو والتقديس، ولا تفريط يصِل لدرجة الاستهانة والانتقاص.

من هنا نفهم أن وطن الإنسان ليس هو مكان نشأته، ولا هو الحدود التي عاش بداخلها، إنما الوطن الحقيقي هو المكان الذي يعيش الإنسان فيه مُستمتعاً بالحرية وبكافة حقوقه كإنسان كرَّمه الله تعالى .

إن الوطن ليس مُجرد جمادات صمَّاء، ولكن الوطن في المقام الأول هو المكان الذي يشعر فيه الفرد بكيانه، وبدون ذلك يُصبح الوطن سِجناً كبيراً مهما اتسعت رقعته وترامت حدوده وكثرت خيراته.

إن الإنسان إذا حُرم المؤهلات التي تحفظ هويَّته وتشعره بكيانه وآدميته وإنسانيته أصبح لزاماً عليه أن يبحث عن وطن حقيقي يُهاجر إليه، وأصبحت الهجرة إلى الوطن الذي يحفظ عقيدته وكرامته فريضة شرعية وضرورة بشرية وغاية مشروعة وهدفاً نبيلاً وحقاً أصيلاً.
قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {21}} [القصص: 20-21].

وقال تعالى: {.. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء: من الآية 75].

قال أبو تمَّام الطائي (أبرز شعراء العصر العباسي)
بالشَّام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بــالــرقمتــين وبـالفسطـاط جـيرانـي
فأينمـــا ذُكــر اســمُ اللهِ فـي بلـدٍ *** عددتُ ذاك الحِمى مِن صُلبِ أوطاني

أخيراً أقول: إنّ كلمة الوطنية لا يمكن أن ننظر إليها بعين الاتّهامِ بل يجب أن ننظر إليها بعين الاعتدال، ومراعاةِ ماذا يراد بها، وإلى ماذا تؤول الأمور عند ذكرها واستعمالها.

إنَّ حبَّ الوطن ليس معناه السَّير في قطيع، واعتناق مباديء القطيع، والتحدُّث بلسانه، واقتفاء أثر الآباء والأجداد دون إعمال للعقل.

إنَّ حبَّ الوطن ليس معناه السَّير في قطيع، واعتناق مباديء القطيع، والتحدُّث بلسانه، واقتفاء أثر الآباء والأجداد دون إعمال للعقل

إنَّ حب الوطن يعني غَرس واقتلاع، وليس مجرد اتباع أعمى.

إنَّ حب الوطن يعني غرس كل ما هو في مصلحة أفراد الوطن وأجيال الوطن المتلاحقة، وتراب الوطن، والحفاظ عليه، والدِّفاع عن حياضه مهما كانت التضحيات، وتوريث ذلك للأجيال.

وغرس قيَم المواطنة الصحيحة البنَّاءة، التي لا تصطدم مع الدين ولا مع الموروثات الصحيحة.

وحبَّ الوطن يعني اقتلاع كل ما من شأنه إحداثُ ضرر بأفراد الوطن وأجيال الوطن، أو بتراب الوطن، وتوريث ذلك للأجيال.

واقتلاع كل ما من شأنه إلحاق الضَّرر العاجل أو الآجل، بالوطن أو بأفراده ومعتقداتهم.

اللهمَّ احفظ أوطاننا من شرِّ الأشرار، وكيد الفجَّار، وشرِّ طوارق الليل والنهار.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …