إن من شواهد وعلامات حُسن الخاتمة أن يُصلي على المُتوفى ويشيِّع جنازته عدد كبير من الناس، لذلك رغب النبي ﷺ في شهود الجنازات وتشييعها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَن شَهِدَ الجَنازَةَ حتَّى يُصَلِّيَ، فَلَهُ قِيراطٌ، ومَن شَهِدَ حتَّى تُدْفَنَ كانَ له قِيراطانِ، قيلَ: وما القِيراطانِ؟ قالَ: مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ" (صحيح البخاري).
بيننا وبينكم الجنائز
إن قول "بيننا وبينكم الجنائز" من الأقوال المأثورة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال الدارقطني: سمعت أبا سهل بن زياد سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمرّ".
فتنة خلق القرآن والتنكيل بالإمام أحمد بن حنبل
بدأت فتنة خلق القرآن في عصر الدولة العباسية بداية من عهد المأمون عام 218هـ مروراً بعهد المعتصم، ثم الواثق، ولم تنته إلا في بداية عهد الخليفة المتوكل.
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من أبرز المتصدين لفتنة خلق القرآن حيث "جهر بالحق في وجه السلطان الجائر" ورفض النزول على رأي الخلفاء العباسيين في هذه المسألة وأعلنها صريحة دون مواربة بأن القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل.
دفع الإمام أحمد رحمه الله ثمناً باهظاً لما جهر به من الحق حيث سُجن الإمام في سجن مُظلم ثمانية وعشرين شهراً، عُذب فيهم أيَّما تعذيب وأهين أيَّما إهانة، وكان عشرات الجلادين يتناوبون على جلده إلا أنهم لم يظفروا منه بكلمة واحدة تتنافى مع العقيدة الراسخة بأن "القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق".
وعندما أدخلوا على الإمام أحمد عمه (إسحاق بن حنبل) ليقنعه باعتناق رأي الحُكام ولو تقية، رفض وقال: "يا عم إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتي يتبيَّن الحق؟".
وللمزيد من التنكيل بالإمام أحمد رحمه الله حِيل بينه وبين طلابه في مجالس العلم، وتمت مطاردته في كل مكان يذهب إليه إلى أن مرض مرضاً شديداَ ولزم بيته في بغداد.
عندما علم الناس بمرض الإمام أحمد أتوا من كل صوب وحدب يعودونه، وتزاحموا في الشوارع حتى تعطلت الأسواق، وكانوا يدخلون عليه أفواجًا يُسلمون عليه ويخرجون.
وعندما نقلت كل هذه الأخبار للخليفة المتوكل، أرسل قواته فأغلقت الطرقات المؤدية إلى بيت الإمام أحمد ليمنع الناس من زيارته.
إن الذي يقتل الحاكم الظالم حقدًا وغيظًا هو اجتماع الناس على واحد من رعيته، فتراه يتبع كل وسيلة ساقطة حتى لا تنظر أبصار الناس إلا إليه، مهما كلفه الأمر، وحتى لا يكون الميِّت قدوة تلهب مشاعر الجماهير وتعيد إليهم صوابهم، وحتى لا تكون الحشود الغفيرة من المشيعين استفتاء شعبياً ضد الظالم الغشوم.
إن الذي يقتل الحاكم الظالم حقدًا وغيظًا هو اجتماع الناس على واحد من رعيته، فتراه يتبع كل وسيلة ساقطة حتى لا تنظر أبصار الناس إلا إليه
ولقد أثبتت كل الشواهد عبر التاريخ أن ما يفعله الطغاة في هذا الشأن ينقلب عليهم، لأن قلوب العباد لا يملكها إلا رب العباد. والمحن لا تزيد أصحاب الدعوات إلا قوة وإيمانًا، ولا تزيد الناس إلا حُبَّاً لهم واتباعاً.
وفاة الإمام أحمد بن حنبل وجنازته
توفي الإمام أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وهو ابن سبع وسبعين سنة.
حضر غسل الإمام أحمد رحمه الله مئة من بيت الخلافة من بني هاشم، وخرج بنعشه ثمانمئة ألف من الرجال، وستون ألفاً من النساء.
جاء في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" لأبي الحجاج المزي: "عن بنان بن أحمد بن أبى خالد القصبانى: حضرت الصلاة على جنازة أحمد بن حنبل يوم الجمعة سنة إحدى وأربعين ومئتين، وكان الإمام عليه محمد بن عبد الله بن طاهر، فأخرجت جنازة أحمد بن حنبل، فوضعت فى صحراء أبى قيراط، وكان الناس خلفه إلى عمارة سوق الرقيق، فلما انقضت الصلاة، قال محمد بن عبد الله بن طاهر: انظروا كم صلى عليه ورأى، قال: فنظروا فكانوا ثمان مئة ألف رجل، وستين ألف امرأة، ونظروا مَنْ صلى فى مسجد الرصافة العصر فكانوا نيفاً وعشرين ألف رجل" اهـ .
وفي "تهذيب الكمال" أيضاً: "أن الأمير بعث عشرين رجلاً، فحزروا كم صلَّى على أحمد بن حنبل، قال فحزروا، فبلغ ألف ألف وثمانين ألفاً. وقال غيره: وثلاث مئة ألف سوى من كان في السفن في الماء" اهـ.
* من المعلوم أن العرب كانوا مشهورين بالفراسة واقتفاء الأثر والحزر أي التقدير، ومن هنا استطاعوا تقدير عدد المشيعين الذين حضروا الجنازة بدقة.
وجاء في البداية والنهاية: قال عبد الوهاب الوراق: "ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية، ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل" اهـ.
وفي البداية والنهاية: أن الوركاني جار أحمد بن حنبل قال: "أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس، ووقع المأتم في المسلمين واليهود والنصارى والمجوس. وفي بعض النسخ: أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفاً. فالله أعلم" اهـ.
إن هذه الحشود والأفواج التي حضرت جنازة الإمام أحمد رحمه الله أكدت مقولته "بيننا وبينكم الجنائز حين تمر"، فجنائز الصالحين جنائز مشهودة تصطك لها الطرقات، ويفِد إليها الناس من كل صوب وحدب وهكذا هم الصالحون تبكيهم الأرض وسُكَّانها، ولا يجد المكلوم برحيلهم بُدًّا من أن يُسارع الخطى مُصلياً وداعياً، ومُشيعاً وساعياً. أما الفاسق المحارب لدين الله المتآمر على الصالحين من عباد الله فمسكين لا يُشيعه إلا أمثاله حتى لو بلغ عددهم الملايين -وإن شيَّعوه- ولا يجد صالحاً ولا تقياً يترحَّم عليه، بل يجد ضحاياه يشمتون بموته ويعدون موته ونفوق الدابة سواء بسواء.
بعض الشهادات في حق الإمام أحمد رحمه الله
قال قتيبة بن سعيد: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب يعني أحمد بن حنبل وإذا رأيت رجلاً يحب أحمد فأعلم أنه صاحب سُنة، ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث لكان هو المقدم عليهم، وقال أيضًا: لولا الثوري لمات الورع، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا" اهـ.
وقال الإمام الشافعي: "خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل، وهو أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لأن سعيدًا كان له نظراء" اهـ.
وقال ابن خزيمة: "رحم الله أحمد بن حنبل، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها" اهـ.
وقال إبراهيم بن جعفر المروزي: "رأيت أحمد بن حنبل في المنام يمشي مشيةً يختال فيها، فقلت: ما هذه المشية يا أبا عبد الله؟ فقال: هذه مشية الخدام في دار السلام" اهـ.
وجاء في "تاريخ دمشق" لابن منظور: "قال مجمع بن مسلم: كان لنا جار قتل بقزوين، فلما كان الليلة التى مات فيها أحمد بن حنبل خرج إلينا أخوه فى صبيحتها، فقال إنى رأيت رؤيا عجيبة، رأيت أخى الليلة فى أحسن صورة راكباً على فرس، فقلت له: يا أخي أليس قد قتلت؟ فما حاجتك؟ قال إن الله عز وجل أمر الشهداء، وأهل السماوات أن يحضروا جنازة أحمد بن حنبل، فكنت فيمن أمر بالحضور، فأرخنا تلك الليلة، فإذا أحمد بن حنبل مات فيها" اهـ.
من هذه الشهادات نعلم أن الأعمار لا تقاس بالسنين فقط ولكنها تقاس بما تركه أصحابها من آثار في نفوس وقلوب الخلق. ونعلم أن قيمة الأعمار تقدر بما تركته من إعمار ، إعمار شامل يشمل إعمار النفس بالعقيدة الصحيحة، وإعمار العقل بالعمل النافع والفكر البنَّاء، وإعمار الروح بكل ما يهذبها ويزكيها. ومما تقدم يمكنَّا أن نقول بأن الإنسان لا يستطيع أن يزيد حياته سنيناً، ولكنه يستطيع بصدق نيته وصحيح عمله أن يزيد سنين عمره حياة.
الأعمار لا تقاس بالسنين فقط ولكنها تقاس بما تركه أصحابها من آثار في نفوس وقلوب الخلق
أخيراً أقول
بالرغم من الظلم الصارخ الذي مارسه خلفاء العصر العباسي ضد الإمام أحمد رحمه الله إلا أنهم لم يمنعوا جنازته ولم يُضيِّقوا على المشيعين كما نرى في زماننا، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن من يمنعون جنائز الصالحين ويُضيِّقون على المُشيعين ويضطهدونهم إنما هم أكابر المجرمين وعتاة الظالمين وصناديد الفساد، وإنهم إنما يفعلون ذلك لضعف قوتهم وهشاشة حُجَّتهم، ولأن دماء وآهات المظلومين وأنات الثكالى تلاحقهم فتفقدهم صوابهم إلى أن يلقوا حتفهم خزايا مدحورين.
ولهؤلاء الطغاة أقول:
إن استطعتم أن تمنعوا جنائز الصالحين فإنه ليس في استطاعتكم أن تمنعوا رحمة الله تعالى التي هي خير وأبقى!!