يموج العالم اليوم بحالة من المتغيرات المحورية والجذرية مما يشي بأفول حضارات وميلاد حضارات أخرى، ويشتد الصراع على مصاف الدول الكبرى، فتتم تحالفات هنا ومعاهدات هناك، واصطفاف على كافة الاتجاهات بين جانبي صراع قطبيين يتغيران تباعًا ليحققا مفهوم التدافع الرباني، بينما المسلمون كما هم منذ المائتي عام الأخيرة خارج إطار الحدث الآني، مفعولا بهم لا فاعل، ليس لهم أي تأثير على الساحة العالمية إلا كتأثير (الزبون) على السوق الاستهلاكي العالمي.
وأما على الساحة الداخلية، فقد أصاب الأمة داء الوهن، وصار بأسهم بينهم، وتغيرت مفاهيم أدوات الحضارة لتصير أموال الأمة وبالا عليها، وتصير مفاهيم العلم والإدراك والوعي والهوية لا تعني سوى الإنفاق المحموم على السلاح، واستهلاك المادة على حساب الأخلاق والرسالة والمهمة والتاريخ خلفنا يقرر أن التغيير في بلادنا لا يحدث بصورة جزئية، ولا تستطيع دولة واحدة مجابهة التحديات المحيطة منفردة، وإنما يجب أن تكون عملية التغيير المرجوة أممية، بقيادة واحدة، بعقل استراتيجي يتبعه عقل جمعي شعوبي محترف وفي تلك الإشكالية أمامنا محوران نعرض لهما في مقدمتنا تلك:
أولًا/ أمراض الأمة العربية والإسلامية
ثانيًا/ أين الحركة الإسلامية من تلك الفوضى؟
أولا / أمراض الأمة الإسلامية
إنها مرحلة شديدة التعقيد تلك التي تمر بها الأمة اليوم من حيث التأثير النفسي والسلوكي الخارجي على المجتمعات والأفراد، ومن حيث تغير منظومة المفاهيم والقيم، فأصبحت كافة القيم قابلة لفكرة إعادة النظر والمناقشة بما فيها ثوابت الإسلام ذاته.
تجسدت كل الأفكار التي تظهر على السطح في أوقات ضعف الأمم وانحطاطها الحضاري والانسلاخ من هويتها في هيئة ثقافة عامة تشكل وعي الأمة وسلوكها وحركتها وهيئتها العامة، فنجد من يحيي ويذكي الخلافات المذهبية والفكرية ليتحول الخلاف المجرد إلى قيمة وفكرة يقسم من خلالها المجتمع الواحد وتقام بسببها الحروب ويقيم من خلالها انتماء الفرد مع أو ضد، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل تختلط النظرة إلى النص القرآني أو صحيح السنة بالنظرة إلى التراث فتنزع المقاصد من النصوص ويحكم الجمود الفكر السائد وتتنازع الأطراف حد التقاتل والتكفير والانحراف الفكري في الوقت الذي لا يمثل فيه أي طرف الفكرة الإسلامية الصحيحة والمستوحاة من روح النص كما أنزل على نبي الإسلام في فجر الرسالة.
وللأمة رسالة ومهمة، بقاؤها مرتبط بمدى قيامها على تلك المهمة وأدائها لها، ومهمة الأمة حددها الله عز وجل في كتابه في سورة البقرة بقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
والخطاب في الآية موجه للأمة المختارة للتكليف وحمل مسئولية "الشهادة" واستكمال طريق الأنبياء وحمل الرسالة الخاتمة، فالأمة هنا مرتبطة مصيريًا بالدين، بقدر ما تحمل منه فهي تنتمي إليه تمثيلا ودعوة وحركة وعملًا وبقاءً، وبقدر ما تترك وتهمل فهي بعيدة عن المفهوم القرآني لمعنى الأمة المقصود والمتسم بالوسطية؟
وقد قمت بالبحث بين صفحات التاريخ والواقع الذي نحياه، أصله وبدايته، وبين دفات الكتب وأفكار المؤرخين والمفكرين وعلماء الأمة لأضع يدي على الداء أو الأدواء التي لحقت بأمتنا اليوم فوجدتها تتأرجح بين ثلاث هي في الأساس بفعل الأمة بنفسها، أمة تهاونت فهانت، وتخلت فانحلت، وانحنت فامتطاها الغير، واستصغرت نفسها فاستكبر عليها أراذلها، وعطلت دينها ففتحت أبواب التآمر عليها، أمراض ثلاث هي القاضية على أية حضارة هيأت الأمة نفسها لتستقبلها مختارة:
1. الاستبداد السياسي والذي نتج عنه التخلي عن الرسالة التي تحفظ للأمة مكانتها وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحفظ الخيرية واستحقاق الشهادة على سائر الأمم؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرط الخيرية، والخيرية شرط الشهادة، والأمة كادت أن تفقدهما معًا.
2. تعطيل العقيدة التي أنزلها الله عزّ وجل، عقيدة التوحيد الخالص فنتج عنها الاستسلام والانحناء والخوف، فخضت للتآمر، والاستعمار الذي تسبب في تخلفها ونهب ثرواتها.
3. الاستهانة في أداء العبادات وغياب الغاية منها وبالتالي غياب تأثيرها على النفوس الفردية والجمعية.
ثانيًا/ لماذا فشلت الحركة الإسلامية في إدارة المشهد المعاصر؟
وأما عن الحركة الإسلامية فإنها تمر بأضعف حالاتها تاريخيًا بعدما استنفدت كافة أسباب البقاء، وشاهدنا وتابعنا السقوط المدوي والانقسام الخطير والهزال الذي أصابها حتى صارت في ذاتها عبئا على أية عملية تغيير منشودة.
إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة -ولا أبالغ إذا قلت جميعها- إنما تقف من مبدأ "التداول" سواء في الرؤى الفكرية أو في الأوعية التنظيمية موقف الرفض العدائي، وهذا الرفض لهذه "التعددية" ليس نابعًا من مجرد الرغبة في الانفراد بالفعل وبالقرار وبالجماهير وإنما هو رفض نابع من خلل جعل هذه الحركات لا تميز بين الأصول والمبادئ والقواعد الإسلامية التي لا يجوز فيها الاختلاف، فصارت تختلف مع ذاتها رفضًا للتعددية.
أيضًا وقعت الحركة الإسلامية في حالة فصام شديد بين الفكر وبين المستبدين من قادتها، وانتقل مصطلح "أنا الدولة" لينسحب على "أنا الجماعة"، وانتقلت القدسية من الفكرة للمفكر والمسئول، وانمحى مبدأ المحاسبة والمراقبة والمساءلة والمتابعة، وفي الوقت الذي كان لزامًا عليها أن تتمايز لتقدم نسقًا حضاريًا مختلفًا، ذابت الحركة في غياهب الاستبداد، بل والانحراف عن منهجها وغايتها الأولي تمامًا، وبذلك فقدت صلاحيتها تمامًا، فلم تعد قادرة على الاستمرار، وصادرت في ذاتها عامل طرد للعقول المفكرة والمبدعة.
كيف تخرج الأمة من كبوتها؟
في ضوء تلك المعطيات، هل يمكن أن نجد حلا لخروج الأمة من تلك المحنة؟ بالطبع هناك حلول كثيرة، ومن رحمة الله بهذه الأمة أنها لا تموت وإن طالت غفوتها، وأنها لا تنضب من عقول وقلوب تحيا لتحييها، وتموت في سبيل بقائها، وهم كثر في بلادنا رغم شدة البلاء ولا نستطيع حصرهم في مقال.
وهناك أفكار موجودة على الساحة سبقت مقالي هذا أعرض لها سريعًا، منها فكرة الأستاذ الدكتور "حامد ربيع" رحمه الله (حامد عبد الله ربيع عبد الجليل 1924م - 1989م هو مؤلف ومفكر عربي ومن أعلام الفكر السياسي العربي المعاصر، عمل كأستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وأستاذًا للنظرية السياسية) والتي استنبطها من الشيخ الرائد "جمال الدين الأفغاني" (عام 1838 في بلدة أسد آباد غربي العاصمة الأفغانية كابول، ويحمل لقب سيد لانتماء أسرته للأشراف) بإنشاء جامعة إسلامية بدل الجامعة العرقية وملخصها أن هذا البعث لا يتحقق إلا بقوله "بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها، مثل حملهم نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم أن لا يتحركوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل، ومثل فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان وقرب نهايته، فهماً يثبط هممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح، مما لا عهد للسلف الصالح به" [الأعمال الكاملة للأفغاني بالجزء الثاني، تحقيق محمد عمارة ص 67].
وأما فكرة الأستاذ الدكتور "سيف الدين عبد الفتاح" (أستاذ العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1987) [العقل الاستراتيجي للأمة].
وفكرته تمثل لب الموضوع المطروح بين أيدينا وهو تكوين (عقل استراتيجي للأمة) لا ينوب عنها، وإنما يقودها، ويشكل عقلها الجمعي ليساعدها على أن تبرأ من تلك المحنة العصيبة التي تمر بها
إن جماهير الأمة العربية والإسلامية لم يعد ينقصها فهم، ولا معرفة، وإنما ينقصها ذلك العقل الموجه والمنظم والذي يتمثل في علمائها ومفكريها لتحديد الوجهة، وإحياء الهوية، وإشعال فتيل التغيير بحكمة وتنظيم وفي قضايا محددة.
ولذلك فيمكن أن نسير على مسارات متوازية في أكثر من وسيلة منها الجامعة الإسلامية ولو بصورة مصغرة، خاصة مع انتشار الجامعات الخاصة على مستوى العالم كله وليس العالم العربي والإسلامي فقط وكذلك فكرة تنفيذ وتكوين (العقل الاستراتيجي) على هيئة مجموعة من العلماء في تخصصات إنسانية مختلفة في مؤتمر جامع دائم تدير فيه المرحلة.
الهدف العام منه:
تشكيل الإنسان المسلم الحضاري القادر على تغيير حاضره وصنع مستقبله.
الأهداف المرحلية:
• صنع حالة من الوعي والإدراك لدى شباب الأمة في قضاياها المصيرية كقضية الوحدة
العربية الإسلامية ووحدة المصير والتاريخ والهوية
• تغيير بعض المفاهيم الحضارية لدي شباب الأمة كبداية منها:
مفهوم التوحيد وعلاقة الفرد بالحاكم من خلاله
مفهوم الأمة
مفهوم الرسالة
مفهوم الوسطية
مفهوم الخيرية
مفهوم الحرية
مفهوم التربية
مفهوم الحضارة
مفهوم الثقافة
مفهوم الابتلاء والأزمة والمحنة
مفهوم الخلافة
مفهوم جماعة المسلمين
مفهوم الرشد "فتية الكهف نموذج"
مفهوم الآخر "غير المسلمين والمخالفين في الرأي وحدود التعامل معهم"
مفهوم التمكين والنصر للفرد والأمة
مفهوم الجهاد، حدوده ومجالاته ووقته والفرق بينه وبين العنف والإرهاب
مفهوم السلفية
مفهوم الشمول الإسلامي التشريعي والعقائدي والسلوكي
مفهوم الدولة المدنية والدولة الدينية
مفهوم التجديد والاجتهاد ودائرتهما
مفهوم التصوف الصحيح والبدعي
مفهوم الجزية
مفهوم الإرهاب والإفساد في الأرض
مفهوم المنهج (النص القرآني والنص النبوي)
مفهوم الاستبداد
مفهوم المعرفة
مفهوم الشهادة والشهود
مفهوم العولمة
مفهوم القدر والعلاقة بين القدر والإرادة والفرق بينهما
مفهوم الاستعمار الفكري
مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مفهوم الأولويات
مفهوم التغيير الخلدوني
مفهوم الواقع
مفهوم الأخلاق
مفهوم الاختلاف وحدوده
مفهوم تحرير المرأة
مفهوم الأمن
مفهوم التفكر والتدبر والبحث في الأرض
مفهوم العبادة
مفهوم التعليم
مفهوم الحدود في الإسلام
مفهوم العدل
مفهوم التعايش المجتمعي والتعايش العالمي مع الآخر
مفهوم مقاصد الشريعة
التشكيل البنائي للمؤتمر
بالنظر إلى حال الأمة وأمراضها الأساسية التي طرحت سالفًا، يمكننا أن نحدد أعضاء المؤتمر العام من خلال تخصصاتهم:
أولًا/ علماء في العقيدة
ثانيا/ علماء في الفقه
ثالثًا/ متخصصون في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
رابعًا/ متخصصون في مجال التاريخ وعلومه واستقراء أحداثه
خامسًا/ متخصصون في علم الاجتماع وطبائع الشعوب والمتغيرات والسنن الكونية
سادسًا/ متخصصون في مجال الإعلام والدعاية
سابعًا/ متخصصون في شأن الحركة الإسلامية تاريخًا وتحليلًا لمسارها ووضع آليات للبدء من حيث انتهت.
لجان تنبثق عن رؤوس المؤتمر وتحويلها لنقاط وتكاليف عملية.
وأخيرًا،، تلك رسالة عملية مفتوحة لعلماء الأمة ومفكريها للبدء في وضع آلية للخروج من تلك المحنة التي طالت، عسى أن تجد قلوبًا مصغية، وعقولًا غيورة، ومؤسسات أو هيئات قادرة على التنفيذ والدعم.