إن من يضع إصبعه على أي جزء من خريطة العالم يجد أن الواقع مرير والخطب جلل والمؤامرة كبيرة والمعركة بين الحق والباطل في أشرس صُورها!
نزرع فتتلف الآفات ما زرعنا، نقاوم الآفات فتأتي الرياح العاتية فتقتلع ما حصَّنَّا، وإذا نجا زرعنا وحصدناه أغار علينا اللصوص فانتهبوا حصيدنا!
زاد اللغط، وبدت غلظة القلوب، وانغمس الناس في الملذات والشهوات، وخنعوا للباطل بصورة من الصعب وصفها!
هل المطلوب منا والحال كذلك أن نشفق على الناس أم نمقتهم ونشمئز منهم ونعتزلهم؟!
إن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف العقول والأفهام والرؤى والأهداف، كما أن الإجابة تختلف باختلاف قوة العزم ونبل المقصد وصدق التوجه ووضوح الغاية!
إن من يطلب الراحة سيُؤْثر السلامة وسيعتزل الناس إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، به أو بالناس.
إنك حين تعتزل الناس ربما تشعر براحة وهمية زائفة، ولكنك بذلك ستريح الشيطان وستتركه يؤدى رسالته على أكمل وجه، حينها سيزاحمك المنكر في عقر دارك، وحينها لن تجدي نصيحة مهما نصحت ولن ينفع جهد مهما بذلت!!!
إنك حين تعتزل الناس ربما تشعر براحة وهمية زائفة، ولكنك بذلك ستريح الشيطان وستتركه يؤدى رسالته على أكمل وجه، حينها سيزاحمك المنكر في عقر دارك، وحينها لن تجدي نصيحة مهما نصحت ولن ينفع جهد مهما بذلت
إن كنت تريد أن تؤدي ما عليك كما يحب ربنا ويرضى فلا تترك الميدان فريسة للشيطان.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "المؤمنُ الَّذي يُخالطُ النَّاسَ ويصبرُ على أذاهم أعظمُ أجرًا منَ المؤمنِ الَّذي لاَ يُخالطُ النَّاسَ ولاَ يصبرُ على أذاهم" (صحيح ابن ماجه).
إن مُخالطة الناس لا تعني مشاركتهم فيما يفعلون ولا موافقتهم عليه بل تعني تحذيرهم مما هم فيه من غفلة وبيان مَغبَّة الانغماس في وحل الفواحش والمنكرات .إن العزلة المطلوبة والحال كذلك إما أن تكون عزلة شعورية ونفسية ببيان عدم الرضا عما هو كائن، وإما أن تكون عزلة حسِّية وجسدية عن أماكن الفحش والمنكر ومرتكبيهما حتى يفيقوا من غفلتهم، ومع ذلك نتعهدهم بالنصح والإرشاد حتى ويعودوا لرشدهم ويرجعوا لربهم ويصلحوا ما أفسدوه، كل حسب استعداده لقبول النصح وجاهزيته للإقلاع عما هو فيه.
منحة من رحم المحنة ولفحة تجلب نفحة
إن كنت تشعر بمرارة الواقع وشعرت بالعجز وقلة الحيلة فإن هذا الشعور وحده كفيل بأن يجعلك تفكر في مَخرج لنفسك ولمن حولك، وكفيل بأن يُفجِّر الطاقة بداخلك لكي تعذر لنفسك بين يدي ربك!
إن ضعفت قوتك وقلت حيلتك وعجزت عن أن تصعد على (جبل الصفا) داعياً ومُنذراً، فلا تعجز عن أن تكون من الذين يتسللون تسلل القطا إلى (دار الأرقم بن أبي الأرقم) مُعلماً ومُتعلماً، وليس بعد ذلك عذر لمعتذر ولا حُجة لعاجز!
* القطا: نوع من الطيور معروف بالخفة والحذر.
اعلم أن العبادة الحقيقية لله تعالى هي أن تحرس الفطرة الإنسانية، فطرتك أولاً ثم فطرة عشيرتك الأقربين!
واعلم أن مرارة شعورك بأنك آثرت الراحة وقعدت عن دعوة الحق قاسية ألف مرة من أن ترى المجتمع يحل فيه الخنا محل الطهر، والكُفر مكان الإيمان، والجور بدلاً من العدال، ولا يشعر بذلك إلا سَوِي الفطرة مُخلص النية الحريص على تحصيل الأجر.
واعلم أنه "مَنْ اغْبَرَّتْ قدمَاهُ في سبيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ على النارِ" (رواه البخاري)، و " لا يجتمعُ غبارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخَانُ جهنَّمَ في جوفِ عبدٍ" (صحيح ابن حبان).
واعلم أن الله تعالى قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِى كَبَدٍ} [البلد: 4]، وقال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ} [الانشقاق:6].
واعلم أن الرباط في سبيل الله هو حائط الصَّد الأول وصدر المواجهة، والمرابط له من الأجر مثل أجر المجاهد.
والرباط بمفهومه الشامل هو الحرص كل الحرص على ألا تنحسر رقعة الفضيلة أمام رقعة الرذيلة.
والرباط بمفهومه الشامل هو كل ما من شأنه تقوية شوكة المسلمين حتى يهابهم الأعداء ولا يتجرؤوا عليهم ولا يستهينوا بهم، والفيصل في ذلك هو الفهم الصحيح، والتوجه الصادق، النية الخالصة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "فرض الله الجهاد لسفك دماء المشركين وفرض الرباط لحقن دماء المسلمين، وحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين".
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ
قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84].
* ومعنى "لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ" أي: لا تدع جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك (تفسير البغوي).
* وجاء في تفسير القرطبي في تفسير قوله تعالى: "لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ"، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده؛ ومن ذلك قول النبي ﷺ: "والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي". وقول أبي بكر وقت الردة: "ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي".
عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله بعث رسوله ﷺ وقال: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إنما ذلك في النفقة.
رُحْمَاكُم بالمكلومين
إن من ينظر إلى أحوال أهل الحق يجد بينهم عجباً!
ينالهم بطش الظالمين ووشاية أعوان الظالمين وألسنة أعوان أعوان الظالمين!
تصلهم السهام من كل مكان في وقت لم يعد في جسدهم مكان لسهم جديد ولا لطعنة جديدة!
يتنكر لهم الصديق، ويخشى من قربهم الأهل، ويتطاول عليهم من كانوا يتمنون أن يكونوا لهم خدماً!!
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إلى حضن دافئ يحتويهم، وصدر واسع يسع مشاكلهم، وقلب رقيق يرق لحالهم، ويد حانية تربت على أكتافهم، وعين راعية تتبع خطواتهم، وعقل راجح يوجِّه سَيْرهم، ووجه بشوش يسُرهم، وناصح أمين يجبر خاطرهم ويرفع معنوياتهم، لا يخذلهم ولا يتركهم لوساوس الشيطان وهوى النفس.
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إلى من يُخفف عنهم بكل ما أوتي من جهد وحيلة، ويبشرهم ببصيص من النور والأمل حتى ولو كان بينهم وبين ذلك ألف ميل، ويصبِّرهم حتى ولو انعدمت كل أسباب الصبر.
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إلى من يُخفف عنهم بكل ما أوتي من جهد وحيلة، ويبشرهم ببصيص من النور والأمل حتى ولو كان بينهم وبين ذلك ألف ميل، ويصبِّرهم حتى ولو انعدمت كل أسباب الصبر
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إلى من يُجيد الاستماع ويُتقن الثناء ويُحسن التغاضي، ويرسم البسمة حتى ولو كانت بطعم الصبَّار.
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إلى من يجمع شتات القلوب تجاه الغاية، ويدفع الجهود نحو الهدف، ولا غاية ولا هدف لنا جميعاً إلا أن نلقى الله تعالى بقلوب مُخلصة راضية، وعزيمة ثابتة، ونفس لا تجذع مما قدَّره الله لها.
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إلى ركن يركنون إليه بعد ركن الله تعالى، ومأوى يأوون إليه إذا خذلهم كل الناس وأغلقت في وجوههم كل أبواب البشر.
إن أهل الحق في أشد الاحتياج إليك فبادر ولا تتأخر، فكل الأعين تنظر إليك !بادر ولا تترك نفسك فريسة للشيطان يُفزِّعك ويذكرك بما يثبطك ويخوِّفك مما فيه نجاتك ونجاة من حولك.
بادر ولا تترك الميدان فريسة للشيطان فإنه ما يود منك سوى ذلك، حينها يعم الفحشاء والمنكر، ويعم الفساد حتى يزاحمك في عقر دارك!
يقول محمد بن عمران الضبي
ومـا المــرءُ إِلا بـإِخــوانــهِ *** كمـا تقبضُ الكـفُّ بالمعصـمِ
ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً *** ولا خيرَ في الساعدِ الأجذمِ
أخيراً أقول: اشحذ همتك تنل غايتك
إن أصحاب العزائم يتعهدون أنفسهم بالرعاية حتى لا تصل إليها الآفات التي تبعدهم عن هدي ربهم وتثنيهم عن عهدهم الذي قطعوه على أنفسهم!
إن أصحاب العزائم يقبلون أن تراق دماؤهم ولا يقبلون أن يمدوا أيديهم في قصعة الضيم، ليقينهم أن الثرى والثريا لا يجتمعان، فشتان شتان بين عاشقي القمم وآكلي الرِّمم!
ولكن من أخلدوا إلى الدَّعة وقبلوا أن يقتاتوا على ما يتركه غيرهم من فتات واستلذوا بالدون من الحياة، يعيشون معيشة دون ويمرقون من الإنسانية والفطرة السوية مروق السهم المُريَّش في الرميَّة!
يقيناً، ستثمر حقول الكادحين! ستنبت زهراً ورياحين!
لا تتوقف عن السعي وثق أن سعيك سوف يُرى وأنك ستجزاه الجزاء الأوفى!
اللهمَّ ألهِمنا رشدنا، وثبِّت على طريق الحق أقدامنا