إن المتأمل في سورة البقرة على امتدادها يجد فيها منهجا متكاملا في احترام العقل الإنساني ومخاطبته بالحجة والإقناع، سواء في تقرير العقيدة الصحيحة والإنكار على سواها من العقائد الباطلة أو في تعليل الأحكام من المحرمات، أو في تربية هذا العقل على حرية التفكير والمنهج التجريبي المحايد في نقد الأفكار والمفاهيم ثم الحكم عليها بالقبول أو الرفض.
ولعلنا نقف مع بعض ملامح هذا المنهج فالسورة منذ مطلعها تنكر على الكافرين تعطيل الجوارح كالسمع والبصر والتي هي مفاتيح للعقل، وقنواته للفهم والإدراك، فهم أي الكفار قد عطلوا هذه الجوارح عن وظيفتها في الاستماع للحق وتلقّيه، قال تعالى: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" (آية:18).
وبعدها في الآيات تأتي الدعوة للتفكر والتأمل في خلق الله للتعرف من خلالها على الخالق المبدع واستحقاقه للألوهية والربوبية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)".
ثم دعوة أخرى للتفكر بتفسير هذه الظواهر الكونية وربط النتائج بمسبباتها في قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون" (آية:164).
وبعدها يأتي تكريم الله للإنسان باستحقاقه للخلافة على الأرض، وإعطاؤه أدوات هذا التكريم من الإرادة المتمثلة في حرية الاختيار واتخاذ القرار وكذلك بما وهبه الله من القدرة على التعلم واكتساب المعرفة والتي يتم تحصيلها بإعمال العقل وتحويلها إلى صناعات ونتاجات تحقق هدف الخلافة من إعمار الأرض، قال تعالى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا".
ومن ثم تميزه بهذه الملكة عن غيره من المخلوقات كالملائكة والجمادات التي لا تعقل "ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
كما جعل الله العلم والكفاءة شرطين للقيادة في قصة طالوت حين اختاره الله ملكا على بني إسرائيل: "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (آية:247).
ثم توجه الآيات إلى تحمل المسئولية الفردية في اتخاذ المنهج الصحيح، والفكر السليم ونبذ التبعية للآخرين، وما في ذلك من إلغاء للعقل وإسلام القياد للغير في المسير والمصير، ويزداد الأمر قبحا حين يعطي الأتباع لهؤلاء المتبوعين قداسة ومكانة لا تليق إلا بالله: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ " (آية:165).
وأن هذه التبعية ستودي بصاحبها إلى الخسران في الدنيا والآخرة حين يتبرأ أولئك المتبوعين من أتباعهم ويتخلون عنهم وقت الشدة والكرب لا سيما يوم القيامة "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ" (آية:166)، وعندها يعرف هؤلاء التابعون خطأهم في ربط مصيرهم بهؤلاء و يتمنون لو تكون لهم فرصة للانتقام والتشفي، ولكن لا سبيل لذلك أبدا فيزدادون حسرة وندامة: "وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار" (آية:167).
كما تحض الآيات على عدم التمسك بالموروث من الآباء والأجداد إن كان باطلا، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون" (آية:170).
وتدعو الآيات إلى عدم التعلق بالمظاهر والشكليات، وتبيّن الحقائق بالنظر إلى جوهر الأمور، ويظهر ذلك جليا في آية البر وأن البر ليس في طقوس كالتوجه في الصلاة إلى جهة أو لأخرى وإنما بإقامة حقيقة العبادة بحيث تثمر خيرا ونفعا للنفس والغير في الواقع والحياة: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (آية:177).
ومثل ذلك عدم الانخداع بالشعارات البراقة التي يرفعها بعض الناس، وإنما يكون الحكم على الناس بمواقفهم وأفعالهم وليس بأقوالهم وادعائهم الخير والإصلاح: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205).
ومن ملامح هذا المنهج أيضا توجيه العقل إلى احترام وجهات النظر الأخرى والاختلاف بين الرؤى والآراء وعدم التعصب والبغي الذي يؤدي إلى الجدال والشقاق، وحينها يكون العلم سببا للهلاك والفرقة بدل أن يكون سبيلا إلى الوحدة والرقي "وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ" (آية:213).
ولا شك أن تحريم الخمر الذي يغتال العقل ويعطله عن وظيفته التي خلق من أجلها، هو أمر تأباه العقول السليمة في أن تتحول بتعاطي الخمر وكل مسكر إلى كيان لا يملك سلطانا على أقواله وأفعاله، وفي تحريم الخمر تأكيد لحفظ العقول عن هذا السفه والأذى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (آية:219).
وفي بيان علة تحريم الخمر والميسر بأن مضارها تغلب فوائدها منهج فريد في مخاطبة العقل بالمنطق والإقناع بالحجة.
وعندما تكلمت السورة عن صفة الله في آية الكرسي، ذكرت فيها من صفات الله في العلم والقدرة والملك ما يستحق به من عباده أن يعبدوه ولا يعبدوا غيره وهذا منهج آخر في مخاطبة العقل بالإقناع وذلك باتصاف الإله بصفات وقدرات لا يقدر عليها المخلوق بحال من الأحوال: "اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" (آية:255).
ثم جاء في الآية بعدها مباشرة رفض الإكراه في الدين وتعطيل حرية التفكير والاختيار ليكون الدخول في الدين عن رغبة واقتناع: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (آية:256).
ثم يأتي حوار إبراهيم عليه السلام مع النمرود، وفيه مقارعة الحجة بالحجة ليتبين الحق من الباطل: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (آية:258).
ثم المنهج التجريبي الذي يجسد الفكرة في التعليم لينتقل المتلقي من الشك والظن إلى اليقين: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (آية:260).
ومن صور مخاطبة العقل في السورة الكريمة ربط الأمر بالخير بصورة إيجابية محببة وربط النهي عن الشر بصورة سلبية مكروهة، كما في الترغيب في الإنفاق بتمثيل مضاعفة أجره بالحبة التي تنبت السنابل ذات الحبوب الكثيرة: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم" (آية:261).
وتمثيل من يأكل الربا بمن يتخبط في الأرض من مس الجن: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" (آية:275).
ولتكتمل الصورة الذهنية عند الجمع بينهما زكّى الإنفاق وقبّح الربا فقال تعالى: "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" (آية:276).
وتختم السورة بتوجيه الإنسان أن لا يغتر بعقله وعلمه، فيطغى في الأرض بل يحس بضعفه وعجزه أمام الله مهما أوتي من قوة العقل والمادة، فيسأل الله أن لا يحمله من التكاليف ما لا يدركه العقل او تطيقه النفس، ويسأله أن لا يؤاخذه على ما يعتريه من الخطأ والنسيان، والعجز والنقصان، ويطلب منه العفو والمغفرة وأن لا يكون كأولئك الكافرين الجاحدين لنعم الله وأن ينصره عليهم وهكذا يكون قد اجتمع للإنسان أركان الخلافة في الأرض باجتماع العلم والإيمان: "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (آية:286).
هذا والله أعلم