قد يبدو عنوان هذا المقال بديهيًّا؛ حيث العرب، ومنذ بدء قطار اتفاقيات التسوية بين مصر، في نهاية السبعينيات، ثم منظمة التحرير الفلسطينية والأردن، في مطلع التسعينيات، قد صاروا –بنَصِّ هذه الاتفاقيات– شركاء أمنيين للدولة العبرية، سواء على مستوى التنسيق الأمني، أو ضمان أمن الحدود.
ولعل النموذج الأبرز سيء الصيت في هذا المجال، هو التنسيق الأمني الذي لم ينقطع لحظة واحدة بين سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية، وبين الجيش والسلطات الأمنية الصهيونية منذ بدء عملية أوسلو، والذي يُعتَبر العائق الأهم أمام انطلاق نشاط منظم، وفعَّال للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.
ويبدو الأمر غريبًا بالفعل، وفق حتى قواعد القياس المُستَخدمة في مجال العلوم السياسية؛ حيث إنه من البديهي والمنطقي أن تكون أية اتفاقيات أو ترتيبات؛ سياسية كانت أو اقتصادية أو أمنية، عُرضَةً للاهتزاز، والتغيير، كما يجري في العالم منذ اختراع مصطلح السياسة العالمية والعلاقات الدولية.
إلا أن الاتفاقيات والترتيبات الأمنية والعسكرية بين عدد من الحكومات والكيانات الرسمية الفلسطينية والعربية، وبين الكيان الصهيوني، تبدو عصيةً على الانهيار، وقاومت عوامل الزمن والتعرية بقوة!!
حتى مصادرة السلطات الصهيونية للمستحقات المالية الفلسطينية من الرسوم والجمارك، ونزع تصاريح الـ"VIP" عن كبار مسؤولي السلطة، والتنكيل بالأسرى، وجرائم غزة (التي هي في الأصل قانونًا، وكما تتشدَّق سلطة عباس، وتتهم "حماس" بالسعي إلى تقويض ذلك؛ هي جزء من مساحات مسؤولية السلطة)؛ كل ذلك لم يفتُّ في عضُد التنسيق الأمني الرسمي الفلسطيني الصهيوني!!
كذلك، نرى بعض الحكومات العربية، وبالذات في منطقة الخليج العربي، لا يغفرون لحركة "حماس" – على سبيل المثال – تصريحًا، تفرضه حتى اعتبارات اللياقة السياسية، حول إيران، التي باتت هي الطرف الوحيد الآن الذي يقدم الدعم السياسي والعسكري لحركات المقاومة المسلحة الفلسطينية، بينما غفروا للكيان الصهيوني جرائمه في حق الناس. أيًّا كانت هوية هؤلاء الناس.. قتل وتشريد وكذا.
نرى بعض الحكومات العربية لا يغفرون لحركة "حماس" – على سبيل المثال – تصريحًا، تفرضه حتى اعتبارات اللياقة السياسية، حول إيران، بينما غفروا للكيان الصهيوني جرائمه في حق الناس!
هذا بطبيعة الحال لا يعني نسيان أو تجاوز الجرائم التي تورطت فيها الحكومة الإيرانية وبعض أذرعها الإقليمية في سنوات الثورة السورية الدامية، أو في حق أهل السُّنَّة في العراق، ولكن لا يمكن بحال أن يكون ذلك عامل قبولٍ للحساسيات الهائلة التي تحيط بالسلوك السياسي الرسمي العربي تجاه فصائل المقاومة الفلسطينية.
نأتي الآن إلى الحَدَث الذي جعل هذا الحديث ذا شجونٍ في هذا التوقيت، وهو البيان الذي أصدره رئيس هيئة الأركان في جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، يوم 28 ديسمبر الماضي عن "إنجازات" جيش الاحتلال وأجهزة الأمن الصهيونية في 2021م.
مما جاء في بيان كوخافي، أن الكيان الصهيوني، شَنَّ في العام المنصرم، آلاف العمليات العسكرية في الشرق الأوسط، من الضفة الغربية، إلى غزة، إلى جبهة سوريا ولبنان، بالإضافة إلى ما لم يذكره من جبهات؛ حيث إن ما ذكره عن عدد العمليات على قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، وعلى سوريا ولبنان، لا يصل إلى رقم بالآلاف، مما يشير إلى عمليات أخرى جرت ضد إيران، وفي مناطق أخرى، ولكن لم يتبناها الكيان الصهيوني بشكل رسمي.
الجانب السياسي في هذا الحديث، وهو ما ذهب إليه مراقبون كُثُرٌ، هو مفهوم الغطاء السياسي للعمل العسكري؛ حيث إن العمل العسكري الذي تقوم به دولة ما خارج حدودها، لابد معه من وجود غطاء سياسي، وهو في حالتنا هذه، هو التطبيع، وبالذات "اتفاقيات أبراهام" التي سعى فيها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قبيل رحيله عن البيت الأبيض.
وهنا نذكر بعض الأمور التي جرت في الأسابيع الأخيرة، وتندرج في هذا الإطار، مثل زيارة وزير الدفاع الصهيوني بيني جانتس إلى المغرب، وزيارة رئيس الوزراء الصهيوني، نفتالي بينيت إلى كلٍّ من مصر والإمارات.
أما الحَدَث الأكثر دلالةً في هذا الصدد، هو الإجراءات التي أخذتها السلطات العسكرية الحاكمة في السودان، عندما قامت في سبتمبر الماضي بمصادرة أموال وأصول تعود إلى حركة "حماس"، والطريف في هذا الأمر، هو مطالبة السلطة الفلسطينية للسلطات السودانية، بتسليم ما تمت مصادرته من أصول وأموال تعود إلى الحركة، إلى سلطة رام الله!!
الجانب المهم الآخر الكاشف في بيان كوخافي، فيما يخص ذلك، هو ما أشار إليه في صدد عدم قدرة الكيان الصهيوني على الحركة بحرية في الأجواء اللبنانية، وكذلك في سوريا، بعد تطوير الأخيرة لدفاعاتها الجوية، في المقابل، أشار إلى ارتفاع وتيرة العمليات الأمنية والعسكرية الصهيونية على غزة، وفي الضفة.
وهو ما يرتبط –بطبيعة الحال– ارتباطًا وثيقًا بقضية الغطاء السياسي. فتأمين الروس لسماء حلفائهم في دمشق –وهو قرار سياسي، حتى لو كان في إطارٍ عسكري– والدعم الإيراني المماثل للحلفاء في سوريا ولبنان، قوَّض جزئيًّا قدرة الكيان الصهيوني على العمل ضد سوريا ولبنان، بينما لأن هناك غطاء سياسي رسمي من السلطة الفلسطينية؛ فإن غزة والضفة مساحات عمل مفتوحة للجيش الصهيوني.
في حقيقة الأمر، فإن التطورات الأخيرة التي نضمُّ إليها قرارات بعض العواصم الغربية باعتبار الأجنحة السياسية لـ"حزب الله" وحركة "حماس"، تنظيمات إرهابية، وتطور سياقات السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، تشير إلى آثار وخيمة لم يسبق لها مثيل لملف التطبيع العربي الصهيوني.
البعض يبرر ذلك بـ"الضعف العربي"، وما إلى ذلك، والذي يجعل العرب بحاجة إلى الكيان الصهيوني، فماذا عن انتصارات الحركة الأسيرة الفلسطينية ضد كل جدران الاحتلال؟!..
الحركة الأسيرة التي لا تملك من الأسلحة سوى إرادتها؛ استطاعت كسر أعمدة سجون ومعتقلات الاحتلال، وفرض إرادتها عليه، كما في حالة فرار الأسرى الأبطال الستة من سجن "جلبواع"، ونجاح الكثيرين منهم، وآخرهم الأسير هشام أبو هوَّاش، في معركة الأمعاء الخاوية!
يقول تعالى: {وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ} [سُورَة "التَّوْبَةُ" – من الآية 28].