أثر الثقافة الإسلامية في بناء النهضة القادمة

الرئيسية » بصائر الفكر » أثر الثقافة الإسلامية في بناء النهضة القادمة
books

من المحفزات الحقيقية للنهوض في المجتمعات – حسب رأي المفكر مالك بن نبي في كتابه "شروط الحضارة" – وجود منظومة من الأفكار تدفع الإنسان نحو إعادة ترتيب العلاقات وفق عالم الأشخاص وقدرة إيجابية في توظيف عالم الأشياء بما يحقق الرفاهية للمجتمع ويضمن ضبط دوافعها الفردية لتحقيق مصلحة الجميع، وهذه المنظومة لا نجدها متجلية – كما يصفها ابن نبي – أكثر ما يمكن في "الفكرة" أو "الثقافة الإسلامية" التي غرسها محمد –صلى الله عليه وسلم– بين أصحابه، فساحوا في الأرض معلنين قيام حضارة جديدة تحقق للإنسان مفهوم السعادة في الدنيا والآخرة.

وحينما نتحدث عن الثقافة الإسلامية بما تحويه من (المعارف والقيم والمعتقدات الإسلامية الحاكمة للسلوك) كما يعرفها السويدان في كتابه "صناعة الثقافة"، فإننا سنتساءل: كيف استطاعت هذه الثقافة أن تنطلق بـ"الإنسان المسلم" حينها نحو بناء حضارة ملأت الأرض نورًا ورحمةً وعدلًا، كما مُلئت قبل ذلك ظلمة وقسوة وظلاما؟ وهل بإمكانها أن تلعب هذه الدور مرة أخرى في استعادة دور "الإنسان المسلم" بفاعلية في هذا العصر؟
لعل تطوافنا في المصادر الرئيسة لهذه الثقافة "القرآن الكريم والسنة النبوية" يساعدنا على فهم هذه الثقافة المنشودة، وقدرتها على صياغة "المسلم الفعال والمنتج"، ضمن المحاور التالية:

أولًا/ وضوح الغاية والرسالة:
إن من يتتبع النصوص القرآنية يتضح له غاية المسلم ورسالته، منها ما قاله تعالى في سورة آل عمران (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ثم أوضح بما كانت هذه الخيرة (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وبذلك غرس النبي – صلى الله عليه وسلم – في قلوب أصحابه غاية وجودهم ورسالتهم للعالم أجمع، وبها نطق أحد أصحابه لرستم حين واجهه في قصره (لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء: من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).

ثانيًا/ كيف بدأت رحلة تأسيس هذه الثقافة؟
بدأت الرحلة منذ تلك الهمسة القدسية لكلمة (اقرأ) في غار حراء، لتوجه النبي – صلى الله عليه وسلم – والبشرية من بعده إلى حقائق مهمة لن تصح إلا بالقراءة الصحيحة، وبلورة التصور الإسلامي في إعادة تموضع العلاقة بين الله والإنسان والكون، وصدق الله حين قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].

ثالثًا/ انطلاق محطة التدوين للمعرفة:
فقد أقسم الله بـ: {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، أي الحرف وأداة الكتابة ونتاجها، فقد قال سيد قطب رحمه الله في تفسير ذلك: "وهذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون، منوهًا بقيمة الكتابة ومعظّما لشأنها؛ لتنقل هذه العقيدة ومنهجها في الحياة إلى أرجاء الأرض، ولتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة"

رابعًا/ في قصة آدم – عليه السلام – أسرار مهمة
فالناظر فيها يجد أن الله حين أعلن للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ} [البقرة: 30] أدرك الملائكة أنهم أمام مخلوق استثنائي سيتحمل مسؤولية كبيرة، وسيمتلك إرادة حرة قد تتصارع وتوصله إلى أن: {يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، إلا أن القرآن أشار إلى أن حل هذا الأمر سيكمن في: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وهي إشارة نحو قدرة آدم – وبنيه من بعده – على التعلم من أخطائه واختلافاته مع أقرانه ليبني عليها حضارته، عندها أدركت الملائكة قوله تعالى لهم: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].

خامسًا/ ما ورد في الحديث الصحيح
عن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ذات ليلة "لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها"، وهي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، فمن هم أولو الألباب؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191] فكانت النتيجة: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] عند إمعان النظر في وصف (أولي الألباب) – الذي ذكر في القرآن في 16 موضعًا منها هذا الموضع – نجد أنهم قد جمعوا – في هذا الموضع بالخصوص – بين ذكر الله وتلاوة كتابه المسطور وهو "القرآن الكريم"، وبين النظر إلى نعمه وآلائه في كتابه المنظور وهو "صفحات الكون"، وبالتالي نجد أن القرآن حث على عبادة التفكر ونتاجاتها من حيث تقوية الإيمان وتحقيق التقوى أو في جانب عمارة الأرض.

وانظر لما قاله الغزالي في كتابه "علل وأدوية": "ولو انساق المسلمون مع توجيهات دينهم لكانوا أسبق إلى غزو الفضاء من غيرهم، ولكن معنى الدين انكمش في نفوس كثيرة فما قدروا الله عز وجل حق قدره، ولا أبصرت وظيفة في كونه، ولا سمت همّتها لتتبع نبيها المتجاوب مع ملكوت الله، الذي أسرج مصابيح حضارة مادية وأدبية لا نظير لها".

سادسًا/ تحت مفهوم "التعامل مع الخلافات"
أقر القرآن الكريم وجود الاختلاف بين الناس، بل أشار إلى أنه قد يكون سببًا لخلقهم على هذه الشاكلة ليستفيد من ذلك، فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ} [هود: 118، 119] فلو كان الناس كلهم متشابهون لما أضاف أحد لهذه الدنيا أية إضافة، بل وأشار القرآن أيضًا إلى أن هذا الاختلاف سر من أسرار الفتنة والبلاء المطلوب الصبر عليه، فقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ} [الفرقان: 20]، كما وضع قاعدة عامة في التعامل مع الآخر فقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وأكد أيضا على حسن التعامل مع هذا الآخر – شريطة أن لا يحارب الإسلام – فقال: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]، ونهى عن موادة الأعداء والمقاتلين: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة: 9]، وأكد أيضًا على أن ديناميكية الحياة قائمة على التدافع بين الحضارات في قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 125] وكل هذا توصيف وتأطير لقواعد الاشتباك مع الآخر - فردًا أو جماعة أو دولة.

سابعًا/ ماذا عن "الخصوصية الحضارية" لكل ثقافة؟ وهل اعترف الإسلام بها؟
ويقصد بـ"الخصوصية الحضارية" ما تختص به حضارة عن أخرى كالأفكار والمعتقدات والمبادئ، أو العلاقات في عالم الأشخاص، أو التفاعل مع عالم الأشياء بناء على تلك المعتقدات أو العلاقات؛ فقد أقر القرآن الكريم الخصوصية الحضارية لكل الناس، وجعل مقدار التفاضل هو التقوى - بما تعكسه من أخلاق وسلوك معنوي ونتاج مادي نافع – وجعل "التعارف" وسيلة التواصل لا الغزو أو الاحتلال، فقال – عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

ثامنًا/ كيف ينظر القرآن للصراعات الاقليمية أو الدولية وانعكاساتها على الأمة؟
ناقش القرآن الكريم الصراع العسكري بين القوتين العظيمتين في تلك الفترة (فارس والروم) في سورة الروم، وأظهر أن هذا الصراع مقدمة لنصر الله للمؤمنين بقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]

تاسعًا/ تحطيم الأصنام البشرية الناتجة عن تملك القوة والعلم
فقد حذر القرآن الكريم من تحويل العلم والثقافة والكتاب من قوة تعود بالمنفعة على البشرية إلى سلطة جبرية تسعى إلى سحق الحريات العامة – في المعتقدات أيضًا – قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، كما استعرض القرآن الكريم تجارب الأمم التي عاشت تحت وطأة مثل هذه العبودية وجحيمها – من أبنائها المستبدين أو من غيرها المحتلين – مؤكدًا على أن "أول دواعي الهزيمة هو الجهل بحقائق الأمور"، ولنا في فرعون الذي: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]، أو السامري الذي ادعى العلم فأضل من حوله: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96]، أمثلة سوء، بينما لنا في ذي القرنين الذي تكفل بإنقاذ ما بين السدين بعلمه الذي حباه الله كل خير، فقد قال: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 95 – 97]

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
مدير علاقات عامة في إحدى المؤسسات التعليمية في الأردن، ناشط اجتماعي، وإعلامي، مهتم بالشؤون التربوية.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …