الطيّـبات…. في سورة المائدة

الرئيسية » بأقلامكم » الطيّـبات…. في سورة المائدة
Quran1819

وكيف لا تكون سورة المائدة سورة الطيبات وقد جاء في أول آية فيها تحليل الطيبات من بهيمة الأنعام، وتعظيم الأشهر الحرم وتعظيم شعائر الله من الهدي، وتحريم الصيد على المحرم ثم الأمر بالتعاون على البر والتقوى والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، وهذه الأوامر والنواهي كلها جملة من الطيبات المعنوية والحسية التي استهلّت بها السورة.

ثم يأتي في السورة بيان ما تم تحريمه من المطعومات الخبيثة كالميتة ولحم الخنزير والمنخنقة (التي ماتت خنقا) والموقوذة (التي ضربت بحديدة حتى ماتت) والمتردّية (الواقعة من مرتفع فماتت) والنطيحة (التي ماتت بسبب النطح من غيرها) وكل ذلك من الخبيث الذي حُبس الدم فيه فلم يُزكّى بالذبح.

وذكرت السورة أيضا المحرّمات من المشروبات والأعمال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

وحين ورد السؤال الكبير في مطلع السورة عن ما أحلّه الله، جاء الجواب سريعا بلفظة الطيبات: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ".

وجاء الحديث في السورة أيضا عن الطيبات من العلاقات لا سيما بين الرجل والمرأة وأن تكون بطريق الزواج المشروع من غير علاقة فاجرة أو صداقة عابرة، لتبقى الأرحام طيبة طاهرة: "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ".

وفي معرض السورة أيضا تجد الحديث عن فرضية الوضوء ولزوم الطهارة للصلاة وهذا كي يلقى المؤمن ربّه طاهرا طيبا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا".

وبعد فرض الوضوء تأتي مشروعية التيمم لمن عدم الماء، لتتعدد أسباب الطهارة ووسائلها في كل الأوقات والأحوال: "فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".

ولكي يكون المسلم طاهرا طيبا، ظاهرا وباطنا، جاء الأمر بالسورة باحترام العقود والمواثيق، والشهادة بالحق أمام القضاء، والعدالة حتى مع الخصم والعدو، فلا معنى أن يكون المؤمن طيبا في ظاهره، ثم يكون خبيثا في باطنه، لا يحترم عقدا ولا يصون عهدا: "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".

وفي السورة نفسها يعيب الله تعالى على قوم خبثاء من اليهود والنصارى نقضوا عهودهم مع الله ويحذرنا أن نكون مثلهم: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".

ومن بعد ذلك النهي عن العقائد الخبيثة التي كانوا عليها من الشرك والكفر: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

كما تنهى عن الخبيث من القول والفعل الذي فعلوه: "وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

وتؤكد السورة أن المكانة الطيبة عند الله لا تكون افتخارا ولا ادعاء، وإنما تُنال بالتزام الطاعات وبذل القربات: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ".

وأن الوسيلة إلى الله إنما تكون بالتقوى والجهاد: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

وأن الإيمان والتقوى أساس كل حياة طيبة في الدنيا والآخرة: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ".

وتضرب السورة مثلا للنفس الخبيثة التي مُلئت حقدا وحسدا في قصة ابن آدم الذي قتل أخاه، لا لذنب إلا لأنه كان من المتقين الطيبين، والذي تقبّل الله قربانه ولم يتقبل من أخيه: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ".

ورغم تهديده بالقتل يبقى مثالا للنفس الطيبة التي تأبى الاعتداء على الأخرين وسفك دمائهم: "لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ".

ولكي يحفظ هذا الدين الحياة الطيبة لأهله، فهو يضرب بيد من حديد على المفسدين الذين يريدون نشر الخبث والفساد في الأرض، فلاعجب أن تجد في هذه السورة حدّ السرقة وحدّ الحرابة والقصاص، وفي سياق ذكر العدوان على الحقوق وارتكاب الأخطاء تفتح الآيات أبواب التوبة والمغفرة لمن أراد الإصلاح بعدالإفساد: "فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".

وكأن الأصل في هذه النفس أن تكون طيبة على الفطرة، فمن لطّخها بذنب أو إفساد فإن الأمل موجود وإن طريق العودة مفتوح لتعود النفس إلى فطرتها وطهارتها.

وتؤكد الآيات أن هذا القرآن وشريعته الخالدة هي النور والهداية لمن أراد الحياة الطيبة، فتدعو إلى تحكيم شرع الله، وأن من يرفض ذلك ويعرض عنه فأولئك هم الكافرون... الفاسقون... الظالمون تباعا كما وردت في السورة.

وأن غير دين الله من الشرائع والمذاهب إنما هو حكم الجاهلية لا تقوم به دولة ولا ترقى به حضارة: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

وإنها رسالة الدعاة إلى الله، أن يبلّغوا هذه الرسالة الطيبة إلى الناس بما تدعوا إليه من الطيبات في الحال والمآل: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ".

ولذا تذكر السورة صفات الفئة المؤمنة الطيبة التي تستحق التمكين في الأرض وحمل هذه الرسالة، من الذين يثبتون على الحق، ولا يرتدون عنه، أعزاء على الكافرين، رحماء بالمؤمنين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".

وفي أواخر السورة تأتي الآية الجامعة لتؤكد أن الطيب والخبيث لا يستويان، ولو كثر الخبيث وعلا أهله وطال زمانه، فإن الفرج قريب وأن التقوى سبيل الفلاح، قال تعالى: "قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

هذا والله أعلم

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …