عَرِفَت السنوات الأخيرة، عددًا كبيرًا من المشكلات التي أثَّرت بشكل عميق الأثر على العمل الإسلامي بمساحاته المختلفة، حتى أبسطها؛ تلك المتعلقة بالدعوة المباشِرة، بمفهومها البسيط، أي القريب إلى الذهن، سواء الفردية أو المؤسسية الطابع.
ولا يتعلق الأمر فقط بحجم الأزمات البنيوية والتنظيمية التي ضربت الحركات التي تعمل تحت مظلة العمل الإسلامي بمفهومه الواسع، الشامل، في سنوات ما بعد ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي، وإنما سبقتها سنوات كثيرة، عرفت فيها هذه الحركات تحديات عظمى متعلقة بالتجديد، سواء في المفاهيم، أو في آليات العمل، أو حتى على المستوى التنظيمي.
رافق ذلك، أو بمعنىً أدق، عملت على تعميقه، تحديات عميقة فرضتها السياسات الأمريكية والغربية في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وما يُعرَف بـ"الحرب على الإرهاب الدولي"، التي تبنتها الولايات المتحدة، وطالت مساحات واسعة من العمل الإسلامي.
شمل ذلك العمل الخيري والإغاثي، والتعليم الديني، وكلاهما –العمل الخيري والإغاثي والتعليم الديني– سواء الحركي أو الرسمي الحكومي، والأوضاع السياسية والاجتماعية للجماعات والحركات الإسلامية في بلدانها، وأوضاع الأقليات والجاليات المسلمة في المجتمعات التي تعيش فيها.
وتختلف "الأقلية" (Minority) عن "الجالية" (Community)؛ حيث الأولى، تعني مجموعة من السكان الأصليين لبلد ما، ويمثلون أقلية عددية، ولديهم مظالم تتعلق بحقوقهم المدنية والسياسية وغيرها، أما "الجالية"؛ فهي عبارة عن مجموعة من المهاجرين، وأبنائهم من الجيلَيْن الأول والثاني، تركوا بلدانهم، وعاشوا في بلدانٍ أخرى.
المهم، أن الكثير من العوامل السياسية والاجتماعية، الداخلية والخارجية، فرضت الكثير من التحديات على العمل الإسلامي، وعلى الأفراد والجماعات التي تقوم به، إلا أن الاستجابة لم تكن على مستوى الحَدَث أو المطلوب، في ظل ضخامة حجم العمل الذي يتم، والأمور المطلوبة.
ومن بين أهم الإشكاليات القائمة، التداخل بين الفردي والجماعي، سواء في مساحات العمل، أو داخل الحركة أو الجماعة أو التنظيم؛ أيًّا كان المُسمَّى.
فالأنشطة الدعوية والخيرية وحتى السياسية التي يقوم بها أفراد، قد تتعرض إلى "منافسة" تصل في تأثيرها إلى حد قد يكون أكثر فاعلية من أنشطة الحكومات والتيارات المعادية للتيار الإسلامي، مما قد يصل حتى إلى التعويق.
أما على مستوى التنظيم، وهذا نوقش كثيرًا في مواضع حديث سابقةٍ؛ فإن مفهوم "الانضباط الحزبي" داخل الجماعات الإسلامية، تحولت إلى ظاهرة ممقوتة لدى البعض، وهي "تسلُّط" التنظيم على أعضائه، مما أدى إلى انصراف الكثير من العناصر الفاعلة، أولاً، وثانيًا؛ ضياع فرص وأفكار مهمة للتطوير، والمبادرات الفردية المفيدة.
الإشكالية الثانية، عدم التجرُّد، وتحول العمل الإسلامي في بعض المناطق إلى ساحة لتحقيق مغانم ذاتية، وهو ما رتَّبت الحكمة الإلهية أن يقود إلى هزيمة، كما حَدَث في غزوة "أُحُد"، وقت النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" ذاته، من أجل تربية المسلمين على أنه ما لم تُخلَص النية لخدمة الدين والدعوة بحقيقٍ؛ فإن اللهَ تعالى لن يقبل من المسلم عمله، الذي يتم باسم الله، بينما هو ليس لله.
الإشكالية الثالثة، هي استعجال النتائج، بينما عندما كانت الظروف مواتية للعمل؛ كان الأمر يتطلب الكثير من الصبر، والتأني في العمل، فيما الآن، وفي ظل حرب ضروس على القيم الإسلامية ذاتها، وعلى الدين والعقيدة؛ نجد مَن يتعجَّل الثمرة، وإما ذلك، أو يغادر؛ فيخسر صفقته مع اللهِ تعالى!
الإشكالية الرابعة، وربما قد لا تكون منظورةً من جانب الكثيرين، وهي تجنُّب عوام المسلمين –وهم بمئات الملايين– للخوض في مجالات العمل الإسلامي المختلفة، ولو تعليم القرآن الكريم، باعتبار خطأ مفاهيمي مرعب، وهو أن العمل الإسلامي صنو الحركات الإسلامية.
وهنا، فقد يكون لهذا الفرد المسلم موقف مبدئي من هذه الحركات والجماعات، فلا يخدم دينه، وقد يخاف في ظل الحرب الراهنة على مساحات العمل الإسلامي المختلفة، ومنصاتها فيحُجِم!!
كل هذه المشكلات ناتجة عن غياب المفاهيم السليمة لدى المسلم عن دوره في هذه الحياة، وسوء فهم التطورات والأحداث التي تجري وتدور من حوله، والتي تمس دينه، بحيث يتطلب الأمر حِراكًا مهما كان حجمه، ولو بتنوير المحيطين به بأي شيء خطأ يرونه، أو أي شيء صواب يتجاهلونه.
الأمر الآخر، أن مشكلة التجديد لدى الجماعات والحركات الإسلامية، والتي تمثل المنصات الأهم للعمل الإسلامي، السياسي والمجتمعي والدعوي، باعتبار قدراتها وانتشارها، وباعتبار قانون إداري وعمراني مهم، مفاده أن العمل الجماعي أكثر فاعلية من العمل الفردي بمراحل؛ هذه المشكلة، قد وصل تجاهلها إلى حد مسَّ ضرورات التجديد في آليات العمل التنظيمي والحركي.
وسمح ذلك إما لخصومها بسهولة تفكيكها، وضربها، أو حدوث حالة من الشلل أو الجمود على أقل تقدير في نشاطها.
فالمشكلات الداخلية، قادت إلى مستوى يمكن أن نطلق "حروب تنظيمية" في بعض المناطق، وتحولت غالبية الجهود المبذولة إما إلى عملية تصفية للحسابات بين أقطاب هذه الصراعات، أو جهود الحفاظ على الحركة ذاتها، مما يمتص غالب الموارد والجهد، في وقت، تمر فيه الأمة بحالةٍ هي أحوَج ما تكون فيه إلى مَن يقودها، ويكشف عنها ما لحق بها من ضلالات في فهم حتى أبسط ما يجري حولها.
ووصل الأمر في تأثير هذه الحالة بشكل عام، إلى أن هناك من المسلمين مَن لا يعرف أن زواج المسلمة من غير المسلم، حرام، وأن إشكاليات مثل تطبيع الإباحية والشذوذ –بمختلف أشكاله في مجتمعاتنا العربية والمسلمة– هو من نافل القول، ويتراجع أمام مشاكلنا المعيشية.
بينما هذه الانحرافات، هي جزء أصيل من أسباب حدوث مشكلاتنا المعيشية والاقتصادية؛ فهي إما ترفع عنَّا يد الله ودعمه، أو أنها تدفع المجتمعات باتجاه المزيد من الفساد بمختلف صوره، والذي يؤثر بشكل موضوعي بكل تأكيد، على حالنا الاقتصادي والاجتماعي.
فتبرير الانحرافات الأخلاقية، يسمح بتبرير الفساد الإداري والمالي والسياسي، وهذا هو أهم أسباب البلاءات الحاصلة في بلداننا العربية والمسلمة.
في حقيقة الأمر؛ فإننا أمام حالة متضخِّمة من غياب المفاهيم، بل وضلالها عن سيرتها الصحيحة، مع عدم توحيد الرؤى بين المسلمين حول الأولويات وآليات التعامل معها، نتيجة غياب جهد إسلامي جماعي مُنظَّم وشامل، يحدد ذلك – بعد مشاورة كافة الأطراف الفاعلة – ويعمل على تنفيذه.