كيف أسلموا “أبو جندل بن سهيل بن عمرو”

الرئيسية » بأقلامكم » كيف أسلموا “أبو جندل بن سهيل بن عمرو”
1256641615جندل

أنساب الإسلام في مكة كقطرات المطر تسقط على كل الدنيا وتغشى كل ما رقّ من أرضٍ، وتسيل على الصخور الصماء تهزها وتهزها حتى إذا أراد الله انفجرت إيمانا وتقوى أو تحطمت تحت ضربات الدهر، والعاص بن سهيل (أبو جندل) كان برّاً بوالده مفتخرا به ولا يقبل أن يعصيه في كبيرة ولا صغيرة أمام قومه، وكان إسلام أختَيه سهلة وأم كلثوم مفاجئا له ولكنهنّ كانتا تحت رجلين من أبناء سادة مكة أسلموا تحت أعينهم ورغم أنوفهم، أما إسلام عميه حاطب والسكران وهربهم إلى الحبشة بدينهما فقد حيّره وجعله يفكر في أمر هذا الدين من بعد أن كان لا يرى فيه ما يستحق التفكير والانشغال عن اللهو والأعمال، ولما بلغه أن والده حبس أخيه الأكبر عبد الله بعد أن اعترف بإسلامه أيضا.

لم يخطر ببال سهيل أن يرقّ قلبُ ابنه أبي جندل لأنه كان صلباً منذ طفولته كالحجارة ولهذا لقبه بهذا الاسم، ورآه حزينا على أخيه ولا يقبل أسره ويرى أمر هذا الدين أقل من أن يلتفت له القادة ويؤذون أبناءهم وأهليهم لأجله، لكن هيهات وقد عقد العزم بأن يحقق ما فشل به القوم مع أبنائهم ويرده عن دينه، فحبس عبد الله مقيد القدمين ومنع أحدا من الوصول إليه، وجاءه أبو جندل يحدثه في أمر أخيه ويحاول أن يهون من أمره لكن أباه ثار وحذره من التدخل بالأمر، فما كان من أبي جندل إلا أن كسر الحصار حول أخيه ودخل محبسه وصار يجلس معه رغما عن والده بالساعات، وتسلل الإسلام إلى قلب أبي جندل شيئا فشيئا حتى طلب أن يلتقي بمحمد عليه السلام فدله على دار الأرقم وشعاب مكة حيث التقى بالنبي عليه السلام وآمن به، وبالرغم مما لقي أخوه من عذاب أمام عينيه إلا أنه توجه إلى والده ودعاه إلى الإسلام وترك ما يعبد ويقاتل لأجله.

جًنّ سهيل بن عمرو وصرخ بأعلى صوته وكأنه قد مسه عارض من الجن وهو يسمع الخبر، وأوثق أبا جندل بقرب أخيه ومنع عنهم الزيارة وضيّق عليهم أكثر فأكثر، وكان رسول الله قد أمّن عمار بن ياسر إذ ذكره بسوء فقال: إن عادوا فعد، فقرر عبد الله أن يحذو حذوه ويعمل خلف الخطوط لخدمة الإسلام وهو بين ظهرانيّ الكافرين، أمّا أبو جندل فبقي في أسر والده لعل قلبه يلين ويحمي أخاه حتى لا يشك أحد به، ويتابع أخبار رسول الله أولا بأول، وبدأ يستوحش الأسر واشتد عليه فراق أخيه وعلم بهجرة المسلمين إلى الحبشة وخشي أن يهاجر أخوه ويتركه -وورد في تاريخ ابن اسحق أن عبد الله هاجر فعلا- لكنه شجعه أن يفر بدينه من بين الكافرين لكنه لم يفعل وبقي معه.

وبدأ المسلمون بالهجرة إلى المدينة فحزن أبو جندل وخاف أن يتركه عبد الله ويتركه وكيف يمنعه وهو يتمنى أن يكون أول المهاجرين لولا هذه القيود التي تكبل قدميه، وبقي أخوه معه ولم يهاجر حتى يظل بقربه وينفذ ما أوكل إليه من مهمات في خدمة الإسلام، ومرت الأيام حتى السنة الثانية للهجرة حين خرج النبي وصحبه لاعتراض قافلة قريش، واجتمعت قريش على الخروج إليه والقضاء على دعوته للأبد، فأقنع أبو جندل عبد الله أن ينسحب إلى النبي وصحبه مهما كلف الثمن وودع أخاه وأرسل مع السلام لرسول الله وصحبه، وكان لهم أخ اسمه عتبة ما زال على الشرك فأوصاه به لأنه قد لا يوفق بالعودة من المعركة، وبقي أبو جندل يترقب الأخبار حتى علم بهزيمة قريش وقتل سادتها في المعركة وأسر والده، فحمد الله وطمع بأن يخرج من الأسر لكن هيهات فقد أوصى والده بحبسه حتى الموت إن لم يعد إلى دين آبائه.

وعاد والده بعد حينٍ غاضبا بعد أن أذله المسلمون وكادوا أن ينزعوا ثنِيّتَيه لولا أن محمداً منعهم وقال لعمر: "إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه."، وسأله عن رجال بيضٍ على خيل بلقٍ بين السماء والأرض معلّمين يقاتلون ويأسرون، فأخبره بأنهم ملائكة تقاتل مع النبي عليه السلام، وكاد قلب سهيل أن يرق لولا ما لاقاه في أسره ونار الثأر التي اشتعلت بقلبه، فاشتد عذابه له وأصبح التحدي بين الأب وابنه أكبر، وطالت الأيام حتى أصبحت شهورا وبلغت سنينا وبين النبي وقريش معارك طاحنة انتصر فيها النبي وبقيت دعوته رغم كيد الكائدين.

انتشر خبر خروج النبي من المدينة مع أصحابه قاصدا مكة معتمرا، وتتالت الأخبار إلى أن علم سادة مكة أنه وصل الحديبية، فأعلنت مكة الاستعداد لملاقاته بالسلاح ومنعه من دخولها إلا أنهم خافوا أن تعيب عليهم العرب منعهم الناس من الحج، وقرر أبو جندل أنه حان وقت اللحاق بالنبي مهما كلف الأمر، وكان أخوه عتبة بن سهيل وبعضا من أبناء عمه قد ملوا من تعذيبه وأشفقوا عليه من قسوة والده، فلما خرج سهيل للتفاوض مع محمد فكوا وثاقه وتغافلوا عنه ففرّ والحديد في قدميه، فمشى أبو جندل حتى وصل الحديبية مثقلا من جراح القيد في قدميه، أنهكه التعب من المسير في طريق يُتعب الفارس ويملّ من المسير فيه، يملؤُه الأمل بانتهاء العذاب والالتحاق بالنبي وصحبه، ففرح به الصحابة وفكوا وثاقه وأكرموه واحتفوا به، ونازعه الشوق لرؤية النبي والسلام عليه، وأسرع إليه بلهفة دون أن يفكر بشيء، فوجد والده خارجا من الخيمة بعد أن كتب صحيفة صلح الحديبية فضربه على وجهه.

قَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ. "أي أننا لم نعلنه على الناس بعد".
قال سهيل: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: فَأَجِزْهُ لِي. (وكأنما يذكّره بأنه قد منع عنه أن يمَثّل به حين كان أسيرا لديه في بدر إذ قال يومها: ‏‏:‏‏ لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا)،
قَالَ سهيل: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ.
قَال النبي صلى الله عليه وسلم: بَلَى فَافْعَل. (وكأنما يستعطفه الرسول ويرجوه فقد كان الموقف على النبي عظيما لكن سهيل أصرّ
قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.
قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. (ومكرز هو من جاء في فداء سهيل يوم بدر وارتضى أن يوثق في القيد مكانه حتى يحضر الفداء.) ولم يقبل سهيل شفاعته أيضا.
قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ صَالَحْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَجَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْعَهْدُ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرَ.

واجتاح الحزن قلوب الصحابة وانفجر على وجوههم وهم يرون سهيلاً يسحب أبو جندل متعجلا الخروج من معسكر المسلمين ويصحبه عمر ويهمس في أذن أبي جندل: أبا جندل، اصبر فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في اللّه، واللّه لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في اللّه، فقال له أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت، فقال عمر: نهانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتله وقتل غيره، فقال أبو جندل رضي اللّه عنه ما أنت أحق بطاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مني.

ومضى أبو جندل وهو يسمع ثناء مرافقي أبيه على حسن استقبال الصحابة له وخوفهم من قوة الإسلام رغم الصلح، وفي الليل تمكن أبو جندل من فك قيده والهرب من آسريه بعد أن غشي النعاس والده ومرافقيه، فلم يعد للنبي حتى لا يحرجه وفوده إليه ويضطر لرده وما لبث أن التحق بأبي بصير رضي الله عنه، وكان يعرفه في مكة ويعلم قصة إسلامه والعذاب الذي صبر عليه في سبيل دينه فأكرمه وقدمه إماماً في الصلاة على أصحابه، وجعل الله له فرجا بعد أعوام الصبر والصمود حتى بعثت قريش ذليلة تطلب أن يشطب بند إرجاع المسلمين الجدد إليهم وأن يضمهم إليه رضي الله عنه وأرضاه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …