تبدأ السورة الكريمة بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ".
وفي الآية دعوة غير مباشرة للتراحم بين الناس، حيث تذكرهم بأنهم إخوة في الإنسانيّة، فربهم واحد "اتَّقُوا رَبَّكُمُ" وأصل نشأتهم وخلقتهم واحد: "الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ".
ولعل المتأمل في سورة النساء يجد أنها جاءت نصرة للضعفاء ودفاعا عن حقوقهم، ففي أول السورة كان الحديث عن الصنف الأول من هؤلاء الضعفاء وهم اليتامى، فلم يترك الله حقوق اليتامى تحت رحمة أقربائهم وأوصيائهم بل تولّى بنفسه –تبارك وتعالى– حفظ حقوقهم بتفصيل قسمة المواريث، فقد قال سبحانه بعد بيان أنصبة المواريث وأحكامها: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ" وهدّد من تعدّى هذه الحدود بالنار والعذاب المهين: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ".
وقد وضعت السورة منهجاً واضحاً لحفظ حقوق اليتامى وأموالهم، فنهت ابتداءً عن أكل أموالهم ووصفت ذلك بالظلم الكبير "وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا".
ثم أمرت برعاية مال اليتيم حتى يكبر، وأن لا يُمس إلا بالمعروف -أي قدر الحاجة- إن كان الولي أو الوصي فقيرا، ثم أن تُدفع لهذا اليتيم أمواله عند كبره وبلوغه سن الرشد: "وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا".
وفي سياق ذلك يأتي التهديد والوعيد بالسعير لمن يأكل مال اليتيم وكأنه يأكل في بطنه ناراً: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا".
بل وأكثر من ذلك أن جعل الله لهؤلاء اليتامى حظا ولو قليلا من قسمة الميرات إذا شهدوها وإن لم يكن بينهم وبين الميت قرابة، وذلك إحسانا إليهم و جبراً لخواطرهم: "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ".
وأما الصنف الثاني من الضعفاء والذي تحدّت عنه السورة فهم النساء، وقد جاء ذلك ممتدّاً في طول السورة وسياقها، ولعل ذلك هو السبب في تسمية السورة بهذا الاسم.
فبدأت بالحديث عن المرأة الزوجة، وكأنها توأم النفس بالنسبة للرجل: "وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا" ليعبّر عن التلاصق والتلاحم في هذه العلاقة بين الزوجين، وهي إشارة ضمنيّة لضرورة حفظ الحقوق بينهما وعدم التفريط فيها.
ثم بيّنت السورة السبيل إلى هذه العلاقة بين الرجل والمرأة وهي الزواج ونهت عن غيره من الطرق غير المشروعة كالزنا واتخاذ الأخدان والخليلات "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ "
ثم أبطلت السورة ما كان من أحكام ظالمة بحق المرأة قبل الاسلام، فقد كانت المرأة لا ترث بل تُورَّث كالمتاع، ويملكها ذووها وأولياؤها: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ".
ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية: (كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت أو يُردَّ إليه صداقها، أو تُحبس عنده حت تُفتدى منه بفدية).
ثم بيّنت السورة أن من أراد طلاق امرأته ليتزوّج بأخرى فليس له أن يمنع الأولى حقها في مؤخر مهرها أو أن يأخذ منه شيئا، ووصفت الآيات ذلك بالبهتان والإثم المبين: "وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا".
وتذكّر الآية بعدها الزوج وبأسلوب راق أن يصون حق العشرة مع مُطلقته، ويحفظ حق عقد الزواج الذي كان بينهما ويسمّيه ميثاقا غليظا: "وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا".
وحرّمت السورة زواج الابن بامرأة أبيه بعد موته، وذلك حفظا لشرفها وكرامتها، وذلك مما تأباه الفطرة السوية والنفس الأبية: "وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ".
وأقرت السورة الاستقلاليّة المالية الفردية لكل من الزوجين على السواء، فليس للرجل أن يأخذ شيئا من مال زوجته دون رضاها أو بغير إذنها "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ".
وإن كانت الآيات جعلت القوامة للرجل على المرأة فليس ذلك مبرّراً للعدوان عليها أو إيذائها وهضم حقوقها، بل إن حق القوامة كان في مقابل ما أوجب الله على الرجل من واجب النفقة على زوجه وعياله بما يوفّر لهم كرامة النفس وحسن المعيشة: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ".
وبعد هذه الآيات التي تتحدّت عن حقوق النساء، تأتي الآية الجامعة في حفظ الحقوق فتأمر أولاً بحق الله وهو عبادته وعدم الشرك به، ثم حق الوالدين لما لهما من الكرامة والفضل، ثم حق الأقارب وما لهم من صلة الرحم، ثم حق الجوار، ثم تعود الآيات مجدّداً لتذكر حقوق الضعفاء من ذوي الحاجة كالمساكين وأبناء السبيل والإماء وذلك في قوله تعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا".
ولعل استهلال هذه الحقوق جميعها بحق الله تعالى إشارة إلى أن أول الحقوق وأوجبها هو حق الله، وأنه الناظم لكل الحقوق بعده، فمن اتقى الله وأدى حقّه لم يضيّع غيره من الحقوق، وقوله في نهاية الآية: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا" إشارة أن الكبر والتفاخر بالجاه والمال والبخل به هو سبب أكل حقوق الأخرين والاعتداء عليها، وهو سبب كل فساد وإفساد، بل سبب للكفر والطغيان واقتران الشيطان: "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ".
وتعرض السورة أساسين اثنين لحفظ الحقوق في المجتمعات، ألا وهما العدل والأمانة: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ".
وإقامة العدل تقتضي أن لا تكون هناك محاباة لقريب أو صديق بل الكل سواء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا".
كما تربّي السورة المؤمن على ما يسمى اليوم بمصطلح "الضمير" أو "الوازع الداخلي" أو "الرقابة الذاتية" وتتجلّى هذه التربية بالأمر بتقوى الله أولا، وهي أول أمر كان في السورة، ثم التخويف بالعقاب الشديد لمن أصر على الخطأ ولم يتب، ثم التذكير مراراً برقابة الله على العبد فتقرأ كثيرا "وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا" وقوله: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا" وأيضا: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ".
وأنّ ما تُقدّم من عمل لن يضيع عند الله وإن كان مثقال ذرّة، إن خيراً فخير وإن شرًّ فشر: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ".
وأخيرا استحضار خشية الله قبل خشية الناس: "يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ".
كل هذه التوجيهات لتصنع مواطناً صالحاً يرغب في الإحسان لا الإساءة، ويميل إلى العفو لا العدوان: "إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا".
ولترسّخ عند المؤمن أن تقوى الله والتزام شرعه وحدوده هو أصل كل بركة في الرزق والمال والولد في كل وقت وجيل كما قال تعالى: "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا".
ولا عجب إذن أن تقرأ في هذه السورة الدعوة إلى التحاكم إلى شرع الله ونبذ غيره من الشرائع والمذاهب والتي تسمّيها السورة بالطاغوت، وتأمل كيف جاء الأمر بذلك مقرونا بالايمان بالله ورسوله وطاعتهما ليؤكد أن تحكيم شرع الله في الأرض وما ينتج عنه من الخير والعدل هو من مقتضيات الإيمان وثمراته.
وأما الصنف الثالث من الضعفاء والذي تحدّثت عنه السورة فهم المستضعفون والمقهورون في الأرض الذين يستعبدهم الطغاة فلا يملكون حرية الرأي ولا الاختيار فضلا عن أن يملكوا حق الحياة الكريمة التي يستحقها أي انسان: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا".
إن الجهاد في الإسلام قد شُرع لغاية كريمة وهي قتال المعتدين ونصرة المتسضعفين، وهكذا يربي الاسلام أتباعه على العزّة ورفض الذلّة، بل نجد في السورة ما يحث المسلم على الهجرة إن كان بأرض كفر وذلّ لا يستطيع أن يقيم فيها شعائر دينه، فلا عذر للمسلم أن يقبل الدنيّة في عقيدته أو المهانة في معيشته: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا".
وهكذا كانت سورة النساء بحق هي سورة الضعفاء، لتؤكد على رسالة الاسلام السامية في محاربة الظالمين وإنصاف المظلومين.
هذا والله أعلم