هل يمكن الجمع بين الرسالية في العمل وكسب المال منه؟
وهل يستقيم كسب المال من العمل في المجالات الدعوية والخيرية؟ أم أن الأولى فيها العملَ لوجه الله تعالى وحده؟
وهل يتعارض ابتغاء مصالحَ لنفسي مع الإخلاص لوجه الله تعالى؟
الإجابات عن كل هذه التساؤلات وغيرها يمكن أن نجده كامنًا في آية قرآنية، تضبط موازينَ الأولوياتِ والأقدارِ ودوائرَ الحقوق والمسؤوليات
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 84].
في سبيل الله: لا عمل يعمله ابن آدم يخرج عن نطاق حكم من الأحكام الخمسة في شرع الله تعالى، وهي: حلال، حرام، مباح، مندوب، مكروه. وهذه الأحكام الخمسة تسري على كل عمل بني آدم بغض النظر عمن آمن ومن كفر، فالعبرة في ميزان الله تعالى بحكم الله تعالى.
مثلًا، كسب المال من بيع الخمر حرام سواء اعتقد الذي يبيعها في حرمة ذلك أم لا، وكسب المال من تعليم الناس علوم الدنيا المباحة كالرياضيات واللغات والاقتصاد والاجتماع وخلافها كسب حلال، وهكذا. إذا استحضرنا هذا المفهوم الواسع عن معنى في سبيل الله، وتنبهنا إلى أننا نتقلب في أحكام أفعالنا وأخلاقنا وممارساتنا وقراراتنا واختياراتنا وجِدَّنا وترفيهنا بين واحد من هذه الأحكام الخمسة، أدرك كل مسلم أنه في معية الله تعالى في كل أحواله وعلى كل أطواره، منذ يصحو إلى أن ينام، بل حتى وهو نائم، بل حتى إذا توفاه الله تعالى في نومه فلم يقم منه. فلا عمل نعمله إلا ولله تعالى فيه حكم وعلى أساس ذلك يكون حسابنا يوم نوقف أمامه سبحانه .
ولهذا لا يتعارض طلب حظوظ النفس المشروعة مع ابتغاء وجه الله تعالى، بل هي متضمنة فيه، بخلاف الحظوظ غير المشروعة. مثال ذلك من يطلب كسب المال ليعف نفسه أو حتى ليمتعها فوق حاجتها، ويتكسب من عمل مشروع، فهذا يطلب حظًّا مشروعًا بسبيل مشروع، وهو مبتغٍ لوجه الله تعالى من حيث إنه التزم الطرق المشروعة. أما حظوظ النفس التي لا يُشرَع طلبها فمنها محرّم مثل الرياء والتسميع ومنها مكروه كالبخل والشَّرَه، وهي حظوظ إذا لم تهذب وتؤدب قد تدفع صاحبها لطلبها من طرق غير مشروعة، ووقتها يجتمع عليه فساد النية مع فساد العمل.
لا يتعارض طلب حظوظ النفس المشروعة مع ابتغاء وجه الله تعالى، بل هي متضمنة فيه، بخلاف الحظوظ غير المشروعة
من جهة أخرى، فالإخلاص لله تعالى درجات ومراتب، أعلاها أن يعمل العبد العمل لا يريد منه لنفسه حظًا ولا مصلحة ولا منفعة ولا شكورًا، بل لا يريد به إلا وجه الله تعالى ورضاه عنه. ثم بقدر ما يبتغي العبد لنفسه من الحظوظ ويطلب من المنافع الشخصية، ينتقص ذلك من صفاء إخلاصه لله تعالى لكنه لا يعني خروجه بالضرورة من ابتغاء وجهه تعالى بالكلية. ولأن حظوظ النفس لصيقة بكل ذي نفس ويصعب التجرد التام منها في الأعم الأغلب، يحسن من كل مسلم أن يجعل بينه وبين الله تعالى أعمالًا دورية يخلصها من حظوظ نفسه، كصدقة سر أو ركعتي قيام أو ذكر أو غير ذلك.
بقدر ما يبتغي العبد لنفسه من الحظوظ ويطلب من المنافع الشخصية، ينتقص ذلك من صفاء إخلاصه لله تعالى لكنه لا يعني خروجه بالضرورة من ابتغاء وجهه تعالى بالكلية
لا تُكلَّف إلا نفسك: فأول وأوجب شخص تقصده بالدعوة وتحرص على صلاحه هو نفسُك، وهي أول من يُغفِله كثيرون ممن يستميتون على خدمة المجتمع ودعوة الناس والمسارعة لنفع الغير، متخذين ذلك ذريعة ومبررا للتقصير في حق أنفسهم عليهم في التزام ذلك الخير والانتفاع بتلك الدعوة. وعجبًا بل أسفًا على من يوقف نفسه لدلالة غيره على الله تبارك وتعالى ثم نفسه ويده هو صفر من ذلك النور الهادي. وهذه الحالة هي المقصودة في قول الله تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44]، فالعتاب في الآية واللوم على نسيان النفس لا على الأمر بالبر، والمطلوب بناء عليه أن تذكر نفسك مع استمرارك في الأمر بالبر، وبذلك تكون الدعوة دافعا لك ومنطلقا للاشتغال بإصلاح نفسك، لا شاغلا عن صلاح نفسك. ومن سوء فهم الآية وسوء تطبيقها اتخاذها حجة وذريعة للتوقف عن الأمر بالبر مع استمرار نسيان النفس، فيجمع صاحبها على نفسه تقصيرين وذنبين. فأمر الناس بالبر والمعروف جهة، وأمر النفس بهما جهة أخرى، والمطلوب الموازنة بينهما ، وأول الموازنة البدء بعمران النفس بالعلوم الضرورية اللازمة لكل مسلم ليصح فهمه لدينه ويستقيم إسلامه في نفسه فيدعو بعد ذلك على بصيرة وعلم. وهذه العلوم سردتها في قائمة على مدونتي بعنوان "علوم الاضطرار لكل مسلم يبتغي استقامة إسلامه".
وحرّض المؤمنين: ليس في ديننا مبدأ الجزيرة المنعزلة عما وعمن حولها، بل الاهتمام بشؤون الغير مطلوب بدرجات بحسب الأقدار والأولويات الشرعية، ولا يُسقِط حقوقهم الاشتغال بحق النفس. وتأمل في قصة سيدنا أبي سلمان الفارسي رضي الله عنه مع أبي الدرداء، لما آخَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ سلمانَ وأبي الدرداءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: (مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقَ سَلْمَانُ. والخلط في الأولويات والأقدار سببه الرئيسي الجهل بشرع الله تعالى والفهم المتكامل للدين، ثم غلبة حظوظ النفس وأهوائها ومزاجياتها على حسّ المسؤولية.
ليس في ديننا مبدأ الجزيرة المنعزلة عما وعمن حولها، بل الاهتمام بشؤون الغير مطلوب بدرجات بحسب الأقدار والأولويات الشرعية، ولا يُسقِط حقوقهم الاشتغال بحق النفس
عسى الله أن يكفّ: إن تعالى الله وحده هو الهادي وإن كثر الداعون وبرعوا في أساليب الدعوة، وهو وحده الرزاق وإن تعددت الأيدي التي تعطي، وهو سبحانه مسبب الأسباب ويسبب بدون أسباب، وإنما نحن العباد نأخذ بالأسباب ونبذل ما علينا معذرة إلى ربنا وامتثالًا لأمره تعالى. وتأمل في قوله تعالى في معركة بدر: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:17]؛ أي أن الله تعالى هو مسبب القتل فمن قضى بموته مقتولًا يومها قُتل ـ وهو تعالى موصل الرَّمِيَّة إلى المَرمِيّ. وإنما من العبد صدق النية والجهد ليكتب له أجر عمله وجهاده واستقامته على أمر الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قسّم الغنائم بين المسلمين يقول: "إنما أنا قاسم الله يعطي" المعطيَ حَقيقةً هو اللهُ تعالَى وإنَّما أنا أَقْسِمُ ما أُمِرتُ بقِسمَتِه على حسَبِ ما أُمِرْتُ به؛ فالأمر والملك والخلق كلهم لله تعالى.
وتأمل في قدوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم أكرم الخلق على الله تعالى وأخلصهم له وأصدقهم دعوة وأحسنهم منجا وطريقة، ومع ذلك أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث "عُرِضَتْ عليَّ الأمَمُ، فجعَل يمرُّ النبيُّ معَه الرجلُ، والنبيُّ معَه الرجلانِ، والنبيُّ معَه الرَّهطُ، والنبيُّ ليس معَه أحدٌ.." [البخاري] فبغض النظر عن عدد الأتباع أو حتى عدمهم، قد أدى كل نبي ما عليه في ميزان الله تعالى ونجح في مهمته التي كُلّف بها لأنه التزم أمر الله تعالى، وهذا هو المقياس الوحيد عند الله تعالى لا عداد المتابعين والمعجبين والمتأثرين كما هو نظام الحساب الجماهيري اليوم! فلا ضمانة لعامل أن يشهد أثر عمله في الدنيا، ولا مقياسُ حسن العمل وقبوله عند الله سعة الأثر وتجمهر المتأثرين، بل الضمانة والمقياس وضحه الله تعالى لنا حين قال عزّ وجل: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]. استحضار هذه الحقائق والاعتقاد اليقيني فيها يصون المسلم من نفسية التوتر التنافسي وحمى التحدي وحدة المقارنة وكافة الآفات التي تلتصق غالبًا بمفهوم التفوق بالميزان الدنيوي.
وبهذا تهدينا هذه الآية أربع منارات نهتدي بها في تخطيطنا لأوقاتنا ومشاغلنا وعلاقتنا وأولوياتها وأقدارها.