من بين الأمور غير الواضحة عند الكثير من العاملين في مساحات العمل الإسلامي المختلفة، وبالذات العاملين بشكل فردي، وفق منطق التطوع الذاتي، هو أن الله تعالى قد أنزل الشريعة الإسلامية، والشرائع التي سبقتها للأقوام الآخرين، من أجل إقامة صالح الدين والدنيا، وتنظيم أوضاع الناس في إطارهم الفردي أو الجماعي، وعلاقاتهم بدوائرهم الأساسية الثلاث؛ ذاته والناس، وربِّه.
وحتى الأوامر والنواهي المشددة التي افترضها اللهُ تعالى علينا، فهي من أجل صيانة مصالح الناس، وتنظيم علاقاتهم معًا، وحماية أموالهم، وأنفسهم، إلى آخر مقاصد الشريعة الخمس المعروفة.
وعندما يقول اللهُ تعالى في كتابه العزيز: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [سُورَة "البقرة" – من الآية 187]، أو {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [سُورَة "البقرة" – من الآية 229]، أو بأية صيغةٍ أخرى ذَكَر بها حدوده تبارك وتعالى في القرآن الكريم، وقَرَن تجاوزها بالكُفْرِ والظلم؛ فإنه لم يشدد في هذا الأمر؛ إلا لأجل تقييد أيدي الناس عن تجاوزها لما فيه صالحهم؛ حيث هي –هذه الحدود– تتعلق بأحكام تنظيمية لحقوق الناس إزاء بعضهم البعض.
فعبارة "حدود الله"، وردت في القرآن الكريم 13 مرَّة في سُورَ "البقرة" و"النساء" و"التَّوبَة" و"المجادَلة" و"الطلاق"، وكلها تتعلق بما صار يُطلقُ عليه في أيامنا هذه، مسمَّى الأحوال الشخصية، مثل الزواج والطلاق والميراث، والتي إما يتم فيها في بعض البلدان المسلمة، العمل فيها بأحكام الشريعة، أو يتم – في بعض البلدان المسلمة أو في البلدان غير المسلمة – العمل على تنظيمها وفق منظومة قوانين وضعية.
ولعل الإسلام، قد سبق في ذلك، الدولة الوطنية "Nation state" الحديثة، بمنظومة الحكم والسلطات العامة فيها، وعلى رأسها سلطة العدالة أو القضاء، والقوانين المرعية فيها.
واللافت هنا أن الله تعالى قد جعل –كما تقدَّم– الحكم بالكُفْرِ والظلمِ، وتوعَّد بالعذاب الشديد للمتجاوزين والمعتدين على هذه الحدود، وأمر حتى بعد الاقتراب منها، ليس في الأمور التي تخص حقوقه جل وعلا؛ كإلهٍ وربٍّ وخالقٍ لهذا الكون، وإنما جعلها جميعها فيما يخص حقوق الناس إزاء بعضهم البعض.
وفي ذلك، يقول اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [سُورَة "النساء"]، ويقول سبحانه أيضًا: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سُورَة "المجادَلة" – من الآية 4].
وبالتالي؛ فإن إقامة المجتمع المسلم من وجهة نظر القرآن الكريم، هو صنو إقامة العقيدة، بل هو نتيجة طبيعية للإيمان بها.
فالعقيدة تظل تعاليم مُجرَّدة إذا ما كانت من دون مؤمنين بها، والاعتقاد فيها، والإيمان بها، يتطلب العمل بأحكام شريعتها، وبالتالي؛ يجب –ضرورةً ونتيجةً– أن يكون هناك مسلم ومسلمون، ومجتمع مسلم، تُقام فيه العبادات لله تعالى وحده، والمعاملات بين الناس، وفق أحكام الشريعة والمنهاج الذي اختاره الله تعالى لنا.
العقيدة تظل تعاليم مُجرَّدة إذا ما كانت من دون مؤمنين بها، والاعتقاد فيها، والإيمان بها، يتطلب العمل بأحكام شريعتها، وبالتالي؛ يجب –ضرورةً ونتيجةً– أن يكون هناك مسلم ومسلمون، ومجتمع مسلم، تُقام فيه العبادات لله تعالى وحده
هذه بديهية مهمة من المفترض على كل مسلم أن يدركها، وبالتالي؛ فهي ينبغي أن تكون حاكمةً له، وفق منطق العقيدة والإيمان بها، ولكنها –وفق ما نراه على أرض الواقع– صارت منسيةً أو مُدْرَكَة ولكنها غائبةً لدى الكثير من الجماعات والأفراد العاملين في حقول العمل الإسلامي.
ويتطلب ذلك الكثير من العمل في مجال الدعوة، ولاسيما فيما يتعلق بإقامة الأخلاق في النفوس؛ حيث الأخلاق هي حجر الأساس الرئيس ضمن أركان العقيدة، الذي تنهض عليه طاعة الله تعالى، والخوف من معصيته، وبالتالي؛ إقامة تعاليمه وأوامره ونواهيه في هذه المساحة.
ولذلك؛ جاء بناء الفرد المسلم، وبناء الأسرة المسلمة، وبالتالي؛ تأسيس المجتمع المسلم، أولويةً في ترتيب سُلَّم أولويات العمل الإسلامي في أدبيات حركة الصحوة والإصلاح الإسلامية الحديثة، حتى من قبل ظهور الجماعات الإسلامية بصورتها الراهنة، والتي كان أولها جماعة "الإخوان المسلمون" في نهايات عشرينيات القرن الماضي.
فنجد ذلك ثابتًا أساسيًّا في مشروعات الرواد المصلحين الكِبار من أنصار مدرسة الإصلاح الراديكالي، وفق مفاهيم العلوم السياسية المعاصِرة، مثل جمال الدين الأفغاني ورشيد الرضا وعبد الرحمن الكواكبي، أو الإصلاح التدريجي القائم على التربية، مثل الإمام محمد عبده.
وهذه القضية أثارت جدلاً في مصر ودول عربية وإسلامية أخرى في العقد الأول من الألفية الجديدة، قبل ثورات ما يُعرَف بـ"الربيع العربي"، بالذات داخل جماعة الإخوان المسلمين، عندما اتجهت الجماعة إلى تعزيز تواجدها في مساحات العمل السياسي المختلفة، ورأى بعض أنصارها وحتى مُنظِّريها الأساسيين، أن الوقت لا يزال مبكرًا لذلك، وأن القفز على مرحلة المجتمع المسلم إلى مرحلة الدولة المسلمة؛ قد يحمل بعض عوامل الفشل.
وزاد هذا الجدل بعد أحداث ثورات الربيع العربي؛ حيث رأى الكثير من العلماء والمفكرين المسلمين أن المجتمعات لم تزل غير مهيأةٍ بعد لتقبُّل المشروع الإسلامي في جوانبه السياسية المتعلقة بالحكم، وخصوصًا في ظل وجود مكونات مُعتبرة من أبناء الكثير من الدول العربية ذات الغالبية المسلمة، من غير المسلمين، وقد يكون من الخطر ربما حتى فرض أنساق حكم إسلامي عليهم، حتى لو تم التعهد بالالتزام بشرائعهم في مجال الأحوال الشخصية أو ما شابه.
المشكلة الرئيسية هنا، أن الأمور قد ازدادت صعوبةٌ في هذا الأمر؛ فبناء المجتمع المسلم، يتطلب الكثير من العمل المؤسسي، الذي يضمن الانتشار الأفقي والرأسي، والفاعلية اللازمة لإحداث الأثر المطلوب.
فالصراعات والحروب الأهلية التي شهدتها الكثير من البلدان العربية والمسلمة في السنوات الأخيرة، قيدت الأطر التقليدية التي كانت تعتمد عليها الحركة الإسلامية في نشر الدعوة، مثل المساجد والمستشفيات ودور العلم، وحتى الدعوة الفردية، صارت لها محاذيرها الأمنية!
الصراعات والحروب الأهلية التي شهدتها الكثير من البلدان العربية والمسلمة في السنوات الأخيرة، قيدت الأطر التقليدية التي كانت تعتمد عليها الحركة الإسلامية في نشر الدعوة
إذًا – وللمفارقة – فإن استعادة مساحات العمل المجتمعي، تتطلب من القيِّمين على العمل الإسلامي بشكل عام، إجراءات سياسية، ولعل أهمها المصالحات الداخلية، سواء مع الحكومات، أو مع المجتمعات نفسها، بعدما طال التشويه أفكارها وصورتها الذهنية عن العمل الإسلامي وجماعاته.
وهو، وللحق؛ فإنه جهدٌ يتطلب زمنًا طويلاً، وبالتالي؛ فإنه ربما من أولوية الأولويات، البدء فيه من الآن.