تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:-
أولاً: بيوت المعتقلين بين الرحا والسندان.
ثانياً: مرارة الفقد داخل بيوت المعتقلين.
ثالثاً: نماذج من وفاء زوجات الأسرى والمعتقلين.
وبفضل الله تعالى سنتحدث في هذا الجزء عن:-
رابعاً: متى يُوجب الشرع التفريق بين الزوجين في حالة غياب الزوج
اختلفت الآراء الفقهية حول جواز طلب الزوجة التفريق بينها وبين زوجها الغائب عنها، كما اختلف الفقهاء حول المدّة الزمنية التي يمكن أن يتم التفريق بين الزوجين بعدها.
إن الاختلاف في الآراء الفقهية جاء نتيجة عدم وجود نصّ شرعي (قرآن وسنة) يحسم الأمر في هذه القضية، ولعله من الرحمة عدم وجود نص حتى تقدَّر كل حالة بقدرها وأن تكون الأمور بالخيار والتوافق وليس بالإجبار والغصب.
إن المقصود بغياب الزوج هنا هو غيابه وانقطاع أخباره وعدم معرفة مكانه ولا إذا كان ميتاً أو على قيد الحياة، مع بذل الجهد في البحث عنه بكل ما هو متاح من وسائل، وكل حالة تقدر بقدرها، وتعرض على الفقهاء الثقات قبل اتخاذ القرار.
عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن عثمانَ بنَ عفَّانَ رضي الله عنه :قضَى في المفقودِ أنَّ امرأتَهُ تتربَّصُ أربعَ سنينَ، وأربعةَ أشهرٍ وعشرًا بعدَ ذلِكَ، ثمَّ تتزوَّجَ فإن جاءَ زوجُها الأوَّلُ خُيِّرَ بينَ الصَّداقِ وبينَ امرأتِهِ" (أخرجه ابن حزم في المحلى بإسناد صحيح).
رأي المذهب المالكي
يبيح المذهب المالكي للزوجة الانفصال عن زوجها المفقود بعد مضي ما لا يقل عن أربع سنوات.
رأي المذهب الحنفي والمذهب الشافعي
ينص المذهبان الحنفي والشافعي أنه "لا يحق لزوجة الغائب فسخ عقد الزواج إلى حين هلاك أقرانه"، (أي حتى مضي فترة زمنية يُعتقد بعدها أن جميع من هم في عمره ماتوا).
رأي المذهب الحنبلي
أما بالنسبة لمذهب الإمام أحمد بن حنبل فإنه يقسم القضية إلى قسمين:-
1- أن يكون غياب الزوج ظاهره الهلاك، وفيها يُسمح للزوجة بفسخ العقد بعد مرور أربع سنوات من غيابه، شرط أن تلتزم بشروط العِدَّة.
2- أن يكون غياب الزوج ظاهره غير الهلاك، وهنا عليها أن تتبع فتوى المذهبين الشافعي والحنفي.
ووفق القرار الذي أصدره "المجمع الفقهي الإسلامي" التابع لرابطة العالم الإسلامي، عام 2013م
• ينتظر في المفقود، فلا يحكم بموته حتى يثبت ما يؤكد حاله من موت أو حياة، ويُترك تحديد المدة التي تنتظر للمفقود للقاضي بحيث لا تقل عن سنة ولا تزيد على أربع سنوات من تاريخ فقده؛ ويستعين في ذلك بالوسائل المعاصرة في البحث والاتصال، ويراعي ظروف كل حالة وملابساتها، ويحكم بما يغلب على ظنه فيها.
• بعد انتهاء المدة التي يقررها القاضي يحكم بوفاة المفقود، وتقسم أمواله، وتعتد زوجته، وتترتب آثار الوفاة المقررة شرعاً.
• للزوجة إذا تضررت من مدة انتظار زوجها المفقود أن ترفع أمرها للقاضي، للتفريق بينها وبين زوجها المفقود للضرر، وفق الشروط الشرعية لهذا النوع من التفريق.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "الجمهور على عدم جواز التّفريق على المحبوس مُطلقاً، مهما طالت مدّة حبسه، وسواء أكان سبب حبسه أو مكانه معروفين أم لا، أمّا عند الحنفيّة والشّافعيّة فلأنّه غائب معلوم الحياة، وهم لا يقولون بالتّفريق عليه كما تقدّم، وأمّا عند الحنابلة فلأنّ غيابه لعذر. وذهب المالكيّة إلى جواز التّفريق على المحبوس إذا طلبت زوجته ذلك وادّعت الضّرر، وذلك بعد سنة من حبسه، لأنّ الحبس غياب، وهم يقولون بالتّفريق للغيبة مع عدم العذر، كما يقولون بها مع العذر على سواء كما تقدّم" اهـ.
ونختم هنا ونقول إن النكاح ثبت باليقين ولا يزول إلا باليقين وهو الموت، وكل حالة تقدر بقدرها، بعد عرضها على الفقهاء والعقلاء الثقات.
وبقول الإمام علي رضي الله عنه، حيث قال: "هِيَ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ، أَوْ طَلَاقٌ".
روى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر كان يقول: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ".
خامساً: دور زوجة الأسير أو المعتقل أثناء غياب زوجها
إن الواقع يقول بأنه ليس الرجل وحده هو الذي يُعتقل، بل إن أسرته بكاملها تكون في حُكم المُعتقل طوال فترة غيابه لأن الهدف الأساسي لدى أي ظالم مُستبد هو تحقيق الردع العام وتكميم كل الأفواه، لذا يمكننا والحال كذلك أن نصف المشهد ونقول: "الآباء يأكلون الحصْرَم والأبناء يضرسون والزوجات تعانين، وعلى الجميع أن يصبروا ويحتسبوا ويثقوا في تدبير الله تعالى لهم".
إن غياب الزوج الأسير أو المعتقل يُغير أحوال أسرته رأساً على عقب، ويضعها أمام خيارات صعبة، ويفرض عليها أن تصبر وتحتسب وتتكيف مع الوضع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وعلى زوجة الأسير أو المعتقل أن تراعي ما يلي أثناء فترة غياب الزوج
1- أن تقوم الزوجة بمزاولة بعض الأعمال التي توفر لها عائداً مادياً مثل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، كل واحدة حسب ظروفها وإمكانياتها وطبيعة المكان الذي تعيش فيه.
2- أن تقوم الزوجة بممارسة بعض الأعمال التطوعية والخدمية التي تشغل وقتها وتجعلها عوناً لغيرها وقدوة يقتدي بها غيرها.
3- أن تقوم الزوجة باستكمال دراستها بالانتساب إلى ما يناسبها من كليات أو معاهد، إن أمكن ذلك.
4- أن تحرص الزوجة على صقل وتنمية شخصيتها من خلال دورات التنمية البشرية (قراءة أو حضوراً أو متابعة على الإنترنت).
5- أن تغرس الزوجة في أبنائها الالتزام الأخلاقي والتفوق الدراسي وأن تعينهم على ذلك بكل ما تستطيع من سُبل.
6- أن تغرس الزوجة في أبنائها ممارسة ما يُنمي مهاراتهم ويصقل شخصياتهم ويعينهم على الكسب.
7- أن تستشعر الزوجة أن جهدها مأجور وسعيها مشكور وأن منزلتها عند بفضل الله تعالى لا تفوقها إلا منزلة الأنبياء.
8- على الزوجة أن تتصرف بما تراه أرضى وأتقى لربها، وأنسب لحالتها وما يخصها من ظروف، وأن تحرص على التوازن بين العقل والعاطفة والمصالح والمفاسد.
سادساً: واجب المجتمع لدعم أسر الأسرى والمعتقلين
إن وسائل المجتمع لدعم أسر الأسرى والمعتقلين كثيرة بداية من الدعم النفسي والمعنوي، مروراً بالسعي على قضاء حوائجهم، وانتهاء بكفالتهم كفالة مادية كاملة أو حسب الجهد والاستطاعة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: " الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" (صحيح مسلم).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى" (صحيح مسلم).
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَن جَهَّزَ غازِيًا في سَبيلِ اللهِ، فقَدْ غَزَا، ومَن خَلَفَهُ في أهْلِهِ بخَيْرٍ، فقَدْ غَزَا" (صحيح مسلم).
إننا عندما نقرأ مثل هذه الأحاديث ربما يتبادر إلى ذهننا أن تطبيقها يحتاج إلى جهد جهيد ولا يطيقها إلا ميسور الحال خالي البال فارغ من المشاغل ... الخ.
إن هذا الفهم يصلنا لأننا نقيس الأمور بمفهوم مادي بحت وننسى المفهوم المعنوي، وفي كل خير.
إن واجب المجتمع لدعم أسر الأسرى والمعتقلين لابد وأن يكون في مقدمة الأولويات، وأن يتكاتف الجميع لتقديم كل عون مادي ومعنوي، ومن بين هذه الواجبات:-
1- تفقد أحوال هذه الأسر وسد جميع احتياجاتها، وأن نضع في الذهن أن فقدان ميِّت قد يكون أهون ألف مرة من غياب غائب لا يُعرف موعد عودته.
2- العمل على توفير فرص دعم أو فرص عمل تضمن لأسر الأسرى والمعتقلين حياة مستقرة وتكفيهم عن السؤال.
3- العمل على تذليل كل ما يواجه هذه الأسر من مشكلات قانونية واجتماعية.
4- قد يكون من بين هؤلاء من هم مستورين الحال ولا ينقصهم الجانب المادي الذي يؤرِّق كثيرين ولكن ينقصهم الدعم النفسي والمؤازرة المعنوية، وهذا يحتم علينا...
أ- الاهتمام بجانب التوعية النفسية والتربوية لمواجهة كل ما يُستجد من ظروف وتطورات تخص الزوجة أو تخص أبنائها والبيئة المحيطة بهم.
ب- أن نتعهدهم بالسؤال من حين لآخر لتفقد أحوالهم وتثبيتهم وضبط خطاهم حتى لا يتنكبوا الطريق.
ج- أن نقدم لهم الرأي والمشورة والنصيحة.
د- أن نشاركهم المناسبات فنهنئ من يحتاج التهنئة ونواسي من يحتاج المواساة...الخ.
هـ- أن نحرص على دمجهم مع الآخرين في مناسباتهم وأفراحهم ورحلاتهم ... الخ، حتى لا نتركهم للوحدة تنهش قلوبهم والعزلة تقتل مشاعرهم.
كل ذلك يؤدى حُباً وطواعية وطمعاً في الأجر والثواب، ومن أحبه الله استعمله في مثل هذه الأمور فوجد خيراً كثيراً.
وكل ما سبق يتم في إطاره الشرعي وفي إطار العُرف الاجتماعي الصحيح، حتى لا نسيء ولا نجرح ولا نقع في محظور.
وفي هذا المقام لا ننسى أن نذكِّر بقول النبي : "من خبَّبَ زوجةَ امرئٍ، أو مملوكةً فليس منا" (صحيح أبي داود).
• خبَّبَ: خدع وأفسد.
سابعاً: بيوت المعتقلين وحلاوة الصبر
بالرغم مما تمر به بيوت الأسرى والمعتقلين من ظروف وأحوال سبق ذكرها إلا أنها لا تخلو من علامات الجبر وبشريات الصبر، وهذا يتجلى واضحاً في حفظ الله تعالى لأفراد لهذه البيوت مما يلوث باقي بيوت المجتمع من انهيار أخلاقي وتفسخ أسري واجتماعي وتعثر دراسي وفساد يزكم الأنوف.
وهذا يوجب علينا أن نهمس لهم بعدة ثوابت لا غنى عنها:
1- لابد أن نحسن ظننا بالله وأن نوقن أن ما تمر به أمتنا زائل لا محالة وأن وعد الله تعالى لعباده الصالحين كائن لا محالة، فقد يكون النصر يرفرف فوق الرؤوس ونحن لا ندري.
2- إن الأمة الإسلامية مر عليها من المحن والابتلاءات ما هي أقصى وأقسى مما تمر به الآن ومع الإخلاص والثبات والصبر والاحتساب انقشعت المحن وحل محلها النصر والتمكين وأشرقت شمس الإسلام من جديد.
3- لابد من التمسك بما تربينا عليه من مبادئ فالإنسان بلا مبادئ كالشجرة بلا جذور، وكالريشة في مهب الريح، وإن شئت فقل كالمرء بلا عقل ولا قلب ولا مشاعر ولا هويَّة.
• إن المبادئ هي البوصلة التي توجه العقل، وتُحيي مَوات القلب، وتُهذب المشاعر، وتؤصِّل هويَّة صاحبها.
• وصاحب المبادئ يرضى أن يُذبح من الوريد إلى الوريد ولا يرضى أن يُعطِي الدَّنية من مبادئه، ولا أن يكون سبباً في فتنة وإضلال غيره، ولا أن يكون سبباً في التمكين لظالم ولا شماتة شامت.
ونذكر بما قاله الشيخ الشعراوي رحمه الله: "قل لجلادي العالم إن السِّياط لا تلغي القيم، وإن المشانق لا تقتل المبادئ وأن التعذيب لا يُميت الحقوق، واقرأ في شموخ وصدق (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) كما قرأها بلال بن رباح، فعاش عليها ومات عليها، وقد بقي صوته يُنقل حيَّاً على هواء القلوب عبر أثير الصدق والصمود والإصرار والصلاح والصبر".
أخيراً أقول
إن الوضع الراهن المتأزم التي تمر به أمتنا الإسلامية والعربية يُحتم أن يكون هناك وقفة صادقة وجادة من كل المخلصين والشرفاء للخروج من هذه الكبوة والتخلص منها بلا رجعة، وتحتم على الجميع عدم الاستسلام لمحاولات الردع الجماعي والتدجين التي يهدف إليها عُتاة المجرمين.
وأقول
إن الزمان يدور دورته وسلسلة التضحيات لم ولن تنتهي بفضل الله تعالى ونحن ما زلنا نرى نماذج لسيدات فضليات يُقدمن من التضحيات والصبر والاحتساب ما لا تطيقه الرجال.
اللهم كن عوناً ومؤيداً ونصيراً لكل صابرة محتسبة واخلفها خيراً في نفسها وأبنائها ورد غائبها عاجلاً غير آجل.. إنك سبحانك ولي ذلك والقادر عليه.