تأمل بداية كيف أنّ المصطفى عليه الصلاة والسلام تكلم في جمع من النساء ووجه لهنّ الخطاب مباشرة، فلم تقم منهنّ من تَرعُد وتَزبُد وتنعي على الله ورسوله مثل ذلك التوصيف "المُهين"! ونساء العرب في ذلك الزمان كنّ ذوات أَنَفة وعزة واعتداد وفيهنّ اللسان الفصيح والبيان الحاضر. وإنما تقبَّلنه بنفس طبيعيّة ونفسيّة سَوِيّة، تعي أن غرض الحديث الإخبار لا الاتهام، وتدرك معنى كونِ الكلام المَقيل كلام الله ورسوله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى بل عن الله رب العالمين وخالقهم، وتعي فارق ما بين الخالق والخلق، وتتأدب عن حدّ العبودية، فتَستَفهِم عما أشْكَل عليها استفهام طالب للعلم لا مُستعلٍ على الحق أو معاند للمشيئة الإلهية، ثم تُسلِّم لحِكمة الله تعالى فيما خلق وحُكمه فيمن خلق.
ونقصان العقل والدين في المرأة هو على ما عَرَّفه من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، بلا انتقاص أو زيادة تأوّل، فهو مخصوص بسياق ومحدد بحال. ثم مراد هذا الحديث الإخبار بغالب في طبع النساء وخِلقتهنّ، لا اتهامهنّ في دينهنّ ولا لومهنّ على النقصان المذكور، إذ لا يَدَ لهنّ في أيهما وكلاهما من عند الله تعالى.
نقصان العقل والدين في المرأة هو على ما عَرَّفه من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، بلا انتقاص أو زيادة تأوّل، فهو مخصوص بسياق ومحدد بحال
فأما الشهادة فلها أحكامها الشرعية المتقررة التي لا تتطلب تفنيدًا بل توضيحًا. والتوضيح الموجز في هذا المقام بداية في أن الحكم لله تعالى والأحكام تنزلت علينا من عند الله تعالى، فهذا ليس تشريع حفنة من البشر للبقية ولا تسلّطًا من جنس على جنس.
وثانيًا، تعيين عدد الشهداء ونوعهم يحدده الشرع بحسب ما يحقق غرض توثيق الدعوى والتغليظ على الشاهد، لأن شهادة الشهداء يترتب عليها حدود وعقوبات وأحكام شرعية، فليست في المسألة محاباة لجنس أو حَطٌّ من شأن آخر، وليس فيها كذلك ما يُستَدلُّ به على اعتبار المرأة عديمة الأهلية أو فاقدة الصلاحية لمجرد كونها امرأة! وللشهادة الشرعية عامة أربعة أحوال:
- الأول: ما تُقبل فيه شهادة أربعة رجال (كالشهادة على الزنا).
- الثاني: ما تُقبل فيه شهادة رجلين (كالشهادة على السرقة).
- الثالث: ما تُقبل فيه شهادة رجل وامرأتين (كالشهادة في البيوع).
- الرابع: ما تُقبل فيه شهادة النساء ولو واحدة (كالشهادة على الرضاع والولادة والحيض).
تعيين عدد الشهداء ونوعهم يحدده الشرع بحسب ما يحقق غرض توثيق الدعوى والتغليظ على الشاهد، لأن شهادة الشهداء يترتب عليها حدود وعقوبات وأحكام شرعية، فليست في المسألة محاباة لجنس أو حَطٌّ من شأن آخر
وذكر ابن قدامة في كتاب "المغني" للفقه المقارن، في كتاب الشهادات/باب شهادة النساء المنفردات: "لا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْجُمْلَةِ... وَيُقْبَلُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، مِثْلُ الرَّضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالْعِدَّةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا، شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَدْلٍ..." ا. هــ.
وأما نقصان الدين، فإذا كان الله تعالى قد كَتَب الحيض والنفاس على بنات حواء ثم قرر رفع الصلاة والصيام عنهنّ أثناءها، فلا تُعَدّ هي بذلك مفرّطة ولا تأثم على ذلك الترك، وإن كانت لا تؤجر كأجر من يُسّر له إتمام العبادة في كل الأوقات (أي الرجال). وتظلّ للمرأة أبواب أجر ومثوبة ليست للرجال بطبيعة الحال ، كما في صبرها على آلام الحمل قبل الولادة وآلام الطَّلْق عند الولادة ومتاعب الرضاع بعد الولادة!
وكما جعل الحامل التي تموت أثناء الولادة من الشهداء السبعة لما في تلك الموتة من شِدَّة: "الشَّهادةُ سبعٌ سوى القتلِ في سبيلِ اللَّهِ: المطعونُ شهيدٌ، والغرِقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيدٌ، والمبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريقِ شهيدٌ، والَّذي يموتُ تحتَ الهدمِ شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بِجُمعٍ شهيدةٌ " [أبو داود]. وقسمة أبواب الأجر والمثوبة كلها من باب: {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]، فليس لعبد الاعتراض أو الشكوى؛ هذا المبدأ والأصل الذي يجب أن يَرجِع له أو يُذَكَّرَ به كل من تُسَوِّل له نفسه أن يتظلّم من قسمة الله تعالى لفضله تعالى على ما يشاء تعالى!
هذا المبدأ والأصل الذي يجب أن يَرجِع له أو يُذَكَّرَ به كل من تُسَوِّل له نفسه أن يتظلّم من قسمة الله تعالى لفضله تعالى على ما يشاء تعالى
ولما جاء فقراء المهاجرين يشكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ (أي أهل الأموال) بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُم؟ْ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً". فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ! (وبالتالي سيظلون في زيادة مثوبة عليهم) فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" [مسلم].
ثم إن من يقف على بلاغة النص يعلم أن الوصف جاء في معرض عَجَب للمرأة لا ذم لها ! ألا ترى صيغة التعجب في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ!"، أي أنها أعطيت القدرة على أن تُحيّر الرجل الحازم وتذهب بِلُبّه. فذلك التعجب كان مبدأ كلامه صلى الله عليه وسلم وأساسه، ثم انتقل لتفصيل مفهوم نقصان العقل والدين عندما سألت السائلة. وتأمل كيف استفسرت المرأة عما أشكل عليها مرتين دون تهيُّب أو حَرَج، وبنفسيّة من يستفهم لا من ينازع، وأجابها المصطفى عليه السلام دون زجر لها عن السؤال باعتبارها "ناقصة عقل" أو "ناقصة دين" لا يحق لها أن تتكلم!
هذا ولم يرد الحديث في أي مرجع معتبر تحت تصنيف "ناقصات العقل والدين" كما تشيع الإشارة له، بل ورد في صحيح مسلم في "كتاب الإيمان" في باب "بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق الكفر على كفر النعمة والحقوق"، وورد في صحيح البخاري في "كتاب الحيض" في "باب ترك الحائض الصوم"، وفي مسند أحمد في "مسند أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه"؛ وليس في أي من هذه التصنيفات ما يدل على الإزراء بالمرأة، ولا على الحرص على تجميع النصوص الدالة على انحطاط قدرها لدى المُصنِّفين الرجال! وتأمل كذلك كيف أن راوي الحديث الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري وصف المرأة السائلة بالجزالة، على علمه بما سيرد في الحديث تاليًا من وصف النساء عمومًا بنقصان العقل، فلو كان ثمة تعارض لغوي أو شرعي لما وقع راوٍ مثله في ذلك الخطأ. والجَزْلَةٌ من النساء كما جاء في لسان العرب هي: "ذَاتُ عَقْلٍ وَرَأْيٍ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْجَزَالَةُ الْعَقْلُ وَالْوَقَارُ".