بداية فلابد لصاحب الرسالة الذي يسعى في تعبيد الناس لرب العالمين والبلاغ عن الله عز وجل أن يكثر من الشكر والحمد لهذا الاصطفاء الرباني فهو شرف لا يوازيه أي شرف، وفخر عظيم لا يعلمه إلا من ذاقه، ومكانة عظيمة حقيق أن يحيا الإنسان عليها داعيا، لما لها من أثر في الحياة وبعد الممات.
ولما كان الطريق إلى الله وتبليغ رسالته محفوف بمطبات الحياة وحقد النفوس والمؤامرات والويلات، كان لزاماً على صاحب الرسالة أن يكون واعياً مدركاً لأعدائه بداية من نفسه التي بين جنبيه ثم الهوى وكلها آفات غير مرئية، ومعوقات غير منظورة لكنها ومع اختفائها كفيلة أن تجرف صاحب الرسالة عن مساره لمسارات و مآلات صعبة محزنة بعيدة عن مراد الله ورسوله.
واليوم ونحن نكتب عن الآفات والمعوقات في حياة أصحاب الرسالات، فإننا سنتحدث وبكل وضوح عن ثلاثة آفات قاتلة في حياة كل صاحب رسالة، وهي تذهب بالمرء وعمله أدراج الرياح وتحول إخلاصه وإيمانه لهباء منثورا.
أولاً: حب التصدر والتطلع إليه
إن الإنسان البارع والصادق في تجرده لربه العامل له فقط، هو ذلك التقي الذي يستوي عنده المدح والقدح، وهو أمر ليس بالهيّن؛ فالإخلاص شيء عزيز وهو سر رباني بين العبد وربه لا يطّلع عليه شيطان فيفسده، أو ملك فيكتبه، ومع خطورة هذه الآفة كانت النجاة منها بمثابة وضوح للطريق بفهم ونقاء وتقوى لله عز وجل.
إن التصدر وطلب الراية والتقدم فضلا عن الشغف بهذا الأمر هو ترجمة لقلب خاوٍ، يحب أن يطرب الجماهير آذانه بالمدائح والثناء وهذا عوار في طريق أصحاب الرسالات.
كما أنه ترجمة خفية لحالة نفس تعاني النقص حتى لو أقسمت بعدم الرغبة والزهد، فإن لكل شيء علامات ودلائل ونحن يقينا لا نرفع سوطا نجلد به ظهور الخلق لكن نؤكد أن هذا الأمر غير مقبول إلا في حالات أبرزها فراغ الميادين والانشغال الكامل بمجريات الأمور والفطانة الحياتية الشمولية، وهذا كمال لما يكن إلا في صاحب الرسالة الأعظم -صلى الله عليه وسلم-.
لذلك فإننا نهمس في أذن كل صاحب رسالة إنه من طَلب شيئاً وكل به، ومن طُلب إلى شيء أُعين عليه، والاثنان بينهما مسافات من التجرد والزهد والإخلاص وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ورحم الله رجلاً أتى بنفسه فوضع يديه على تطلعاتها وأمانيها ثم وبّخها وشدد عليها ثم ألزمها كتاب الله فصار لها قائداً.
ثانياً: الغرور
والغرور هنا نوعان: غرور بالطاعة والعمل الصالح، وغرور بالعلم والشهادات.
ويقينا النوعان مهلكان، لكن لاشك أن الغرور بالطاعة أشد هلاكاً وأسرع اندثارا وأمحق للبركة وأضعف لقبول العمل.
والسؤال: هل يصح وجود الغرور في حياة صاحب الرسالة بشكل عام؟
والجواب يقينا غير مقبول وإن غلب الطابع البشري في تأديب النفس حتمي الحدوث حتى لا يتمادى الأمر من حيث يظن صاحبه إنه ورع نقي تقي والعكس صحيح.
إن الغرور آفة ثقيلة مهلكة مضيّعة للأعمال فهي تحول سعي المرء للبوار، والأخطر في هذه الآفة أنها إن تملكت من القلب أشعرت صاحبها إنه معه صك للقبول والغفران، وأوهمته أن قدمه اليمنى في الجنة، وهذا يقينا نتاج عدم المحاسبة للنفس التي هي أشد أعداء المرء.
وإننا مع ذكرنا لهذه الآفة نذكّر كل صاحب رسالة أن يلوذ إلى محرابه كثيراً وأن يجعل بينه وبين ربه خبيئة لا يعلمها أحد فيكثر من الإلحاح ويطلب من ربه العفو وأن يرزقه صدق التجرد والإخلاص ونقاء السريرة، وأن ينتصر على نفسه التي تعشق الزهو والمدح حتى يسير برسالته إلى الله واعيا حجم التكليف لا التشريف.
ثالثاً: فوضى الوقت
قديما كنا نسمع مقولة أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والحقيقة أنه ومع حقيقة المقولة في إنهاء حياة المرء إلا إن الوقت ليس سيفاً بل هو الحياة بشمولها.
فالإنسان يسعى ويضرب في الأرض داعياً وعاملاً وساعياً على حياته وأحواله وأموره مبتغيا الرضا الإلهي وكل هذه أوقات إن طغى بعضها على بعض اختلت حياته.
والوقت في حياة أصحاب الرسالات بمثابة الرئة التي يتنفسون منها فهي حياتهم إن ضعفت أتعبتهم، وإن توقفت عن العمل نتيجة أخطاء وفوضى فهو إعلان وفاة، فحبل التنفس قد تم إغلاقه والحياة انتهت والمعنى هو انتهاء الحياة الحقيقية، واستبدالها بحياة فوضوية حيث لا تخطيط أو تنسيق أو وضع الأمور في نصابها باحترافية وفهم وإعطاء كل ذي وقت وقته، وعدم التجاهل أو الإهمال فضلا عن التواصل والتقدير.
ولعل أخطر ما في آفة الوقت وضياعه هو تحول الأمر لشيء عادي يمارسه صاحب الرسالة فلا يشعر بمشكلة في تضييع أوقاته وإهمال واجباته وعدم الاكتراث بهما. فيمارس الأمر بكل أريحية فلا لوم أو عتاب وتلك مرحلة شديدة الخطورة في حياة أصحاب الرسالات، فالحال يتبدل والهمة تقل والسعي يضعف والوعي يجف.
وتلك مقومات صعبة تنقل المرء من صاحب فهم إلى إنسان لا يبالي برسالته وأوقاته التي هي حياته فالحياة قطار سريع ونحن نسعى أن نصل قبله ولا مكان للكسالى.
ختاما..
يا صاحب الرسالة تخلص من هذه الآفات الثلاثة، فأنت أقوى بيقينك وإيمانك وصدق بيعتك مع الله التي آن أن تحددها وتضبط بوصلة قلبك وعقلك تجاه سبحانه وتعالى فقط.
وعليك أن تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ولا تبخس الناصحين لك إخوانهم في الإسلام فالناصح محب غيور عليك فأنصت إليه وانتبه لخطواتك وراقب موضعها، وثق أنه لن يصل إلا المخلصون فهل وصلتك الرسالة أم لا زلت في سبات عميق؟