وفق مذهب الأمر الواقع، أو ظاهر الأمر الواقع؛ فإنه بكل تأكيد، قد يتلقى البعض هذا العنوان، وهذا الحديث، ببعض السخرية، أو على أقل تقدير عدم التصديق، في ظل ما يعكسه الواقع من أنه لم يعد في العالم ربما مناطق نزاعات بينية ساخنة، وحروب دموية، سوى في العالم العربي والإسلامي، تنهض الكثير منها على أساس شعارات دينية إسلامية.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن الكثير من المتابعين من خارج دائرة الحدث؛ قد يكونوا معذورين في ذلك؛ حيث إنه في غبشة دخان الحروب، والدماء والرماد، تصبح الصورة مغبَّرة، فيها الكثير من الغَبَش، وفي ظل قسوة ما يجري في العالم العربي والإسلامي من صراعات؛ قد لا يتقبل البعض أي حديث خلاف ما يعكسه ظاهر الأمر.
ولا يمكن بحالٍ من الأحوال، رد الأمور كلها إلى دور قوى الاستكبار والاستعمار العالمي التي سعت من خلال أدوات استخبارية معقدة، إلى تأسيس هذه النظرة الخطيرة الخاطئة إلى الإسلام، باعتباره دين عنف ودماء وإقصاء للآخر، حتى الآخر المسلم الذي لا ينتمي إلى نفس الطائفة أو المذهب أو الجماعة أو حتى الفصيل المسلح!
في الواقع؛ فإنه ينبغي الاعتراف بحقيقة مهمة، مفادها أن جزءًا من الأزمة الراهنة، يعود إلى ما اقترفته أيدي الكثير من المسلمين.
وهنا سنقف أمام مجموعة من التنظيرات التي وضعت بشكل مغلوط تمامًا، ومخالف لصحيح الشريعة، آيات القتال في القرآن الكريم وعددًا من كبار حوادث السيرة النبوية، في الإطار الذي أسس الصورة المغلوطة الحالية عن الإسلام وموقفه من قضية هي الأهم، والتي تحرك السياسة العالمية منذ قرنين من الزمان على أقل تقدير، وهي قضية السلام العالمي.
ويكفي هنا أن نشير إلى أن الدولة العباسية الأولى، وباعتراف المؤرخين والحَدَث التاريخي يؤكد ذلك، استطاعت في القرن الأول من عمرها، تحقيق السلام العالمي وفق منظور تناولته العلوم السياسية الحديثة، مع كونها تحولت إلى قوة عظمى فرضت السلام في عصرها، مثلما فعلت الدولة الرومانية في فترة من فترات هيمنتها على العالم القديم، وهو ما لم تستطع الولايات المتحدة تحقيقه برغم من أنها القوى الأعظم التي ظهرت عبر التاريخ بمقاييس عناصر قوة الدولة.
هذا بينما الدولة العباسية – وفق منظور حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" – لا تمثل بدقة الخلافة على منهاج النبوة، بل كانت ضمن سياقات ما جاء في الحديث النبوي عن مراحل المُلْك الجبري والمُلْك العضود في حياة دولة الإسلام والمسلمين.
وأبلغ دليل على رعاية الإسلام لفكرة السِّلْم في المحيط الذي تعيش فيه جماعته ودولته، أن الدولة الإسلامية الأولى، دولة الوحي وقت وجود شرعيتها الأساسية، مجسَّدةً في الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لم تخرج إلى قتال إلا قتالٍ دفاعيٍّ -بحسب رأي عدد من العلماء- حتى عندما وقعت الحروب الأخيرة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام على التخوم الشمالية لشبه الجزيرة العربية، حدود دولة الإسلام الأولى، مع الرومان وحلفائهم؛ كانت لرد عدوان الرومان على الدولة الوليدة، بعد أن استشعرت الدولة الرومانية وقتها، وجود قوة وليدة عربية مسلمة الهوية، قد تهدد نفوذها في ذلك الوقت.
وأساس نظرة الإسلام إلى الجماعة البشرية، هو أولاً؛ الاعتراف بالتنوع القائم فيها كقانون عمراني وضعه رب الكون وخالقه، وبالتالي؛ لا يمكن نقضه، وهو ما جاء واضحًا في سورة "الحجرات".. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)}.
هذه الآية فيها لفتة مهمة للغاية بخلاف المعنى القريب فيها، وهي تلك المتعلقة بأنَّ الخطاب القرآني موجه إلى غير المسلمين، فكيف يكون دينٌ كتابه، الذي يحوي تعاليمه وشِرعته، ينبذ الآخر، بينما فيه آيات تخاطب هذا الآخر غير المسلم؟!.. فهذه الآية ليست استثناءً في هذا الأمر؛ حيث القرآن الكريم فيه الكثير من الآيات التي تخاطب الناس كافة.
كما تنطق نظرة الإسلام إلى وجود الإنسان في الأرض، من مبدأ مهم عبَّرت عنها سُورَة "هود"، في قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [من الآية 61]، وعضَّد معناها، الكثير مما جاء في خطبة الوداع التي ألقاها الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" في عام بعثته الأخير، مثلما قال: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى".
وهنا لابد أن نشير إلى أن خطبة الوداع، ووثائق نبوية أخرى، موجودة على قاعدة بيانات جامعة مينيسوتا الأمريكية لوثائق حقوق الإنسان.
وهذه رؤية لا يمكن بحال معها قبول مزاعم رفض الإسلام للآخر، أو أنه دين حربٍ، وهنا لابد من أنْ نُعيد التأكيد على قضية إساءة أو أخطاء فهم وتفسير الكثير من الآيات والنصوص الإسلامية عن قوة الدولة والحرب والقتال، وفق مفاهيم العلوم السياسية والإستراتيجية المعاصِرة.
فهناك مَن يأخذ عبارة {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [سُورَة "الأنفال" – من الآية 60]، في اتهام الإسلام بالإرهاب (!!)، بينما الأمر عكس ذلك تمامًا.
ودليلنا في ذلك، أولاً، العلوم السياسية الحديثة التي وضعها الغرب نفسه؛ حيث إن الآية تعكس رؤية متعلقة بضرورة امتلاك الدولة لعناصر قوتها الذاتية، بما يحقق عنصر الردع ضد خصومها من دون داعٍ لخوض صراعات وحروب، وكبح جماح القوى الأخرى عن التفكير في العدوان.
وهناك مصطلح معروف في العلوم السياسية، هو مصطلح "باكسا" أو "Paxa"، وهو الذي يُضاف إلى اسم دولةٍ عظمى ما، للتعبير عن وصولها إلى درجة من القوة تكفل لها فرض حالةٍ من السلام العالمي، من خلال قمع أية محاولات لصراعات وحروب من جانب القوى الإقليمية والدولية الأخرى، كما تم في حالة الدولة الرومانية؛ حيث لدينا مصطلح "Paxa-Romana"، وفي حالة الولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة ما بعدها "Paxa-Americana"، وهو ما لم تفلح فيه الولايات المتحدة كما يخبرنا الواقع.
الدليل الثاني على بطلان مزاعم هؤلاء، هو من القرآن الكريم نفسه؛ حيث الآية التالية مباشرةً للآية السابقة التي يتم اجتزاؤها من سياقها مثل مبدأ "ولا تقربوا الصلاة"؛ تقول الآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سُورَة "الأنفال" – الآية 61].
وهو معنىً يتفق تمامًا مع فكرة الردع أو الإرهاب بمعنى التخويف للردع، وليس حشد القوة بغرض العدوان، وهنا لابد من التنويه إلى أن الآية في سُورَة "الأنفال"، وهي سُورَة يزعم خصوم هذا الدين أنها إحدى سُوَر القرآن الكريم التي تساند فكرة الحرب والقتال والقتل، بينما الأمر مختلف تمامًا.
في حقيقة الأمر؛ فإن القضية واسعة، وبحاجةٍ إلى أبحاث ودراسات تتجاوز المساحة أو الحيِّز الذي يشمله هذا الحديث، ولكن أهم ما ينبغي الاعتراف به من جانب القيِّمين على أي جهدٍ علميٍّ في هذا الصدد، وهو أنه ينبغي أولاً توجيه البحث والتنظير إلى داخل عقول المسلمين أنفسهم قبل محاولة دحضها لدى خصوم الدين والأمة؛ حيث غالب ما يتم؛ يتم بأيدينا. للأسف!