العلة تعبدية

الرئيسية » حصاد الفكر » العلة تعبدية
Rosary and sunset.

كثير من العلماء الأجلاء عندما يواجههم المُستفتون والطلبة والأتباع -امتثالاً لقوله تعالى في سورة النحل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (43)- بسؤال عن سبب هذه العبادة أو تلك؟ أو ما الحكمة من هذا النُسك أو ذاك؟ يقولون بكل تواضع: "العلة تعبدية".

ويعنون بهذه الجملة المطمئنة أن أداء الإنسان لأي عبادة أمره الله سبحانه وتعالى بها، سواء كانت في إطار الفروض والأركان أو الواجبات والسنن، أو كانت في النواهي والمكروهات، فعلتها تعبدية محضة، وعليه أن يتعامل مع أدائها على أنه امتثال تام للقيام بأوامر لله سبحانه وتعالى، واستجابة فورية لنواهيه جل وعلا، لسان حاله رضي الله عنه ما ورد في سورة آل عمران (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (31) مُحققاً بذلك وصف الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في مطلع سورة البقرة بقوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

فهو بذلك يستجيب لربه فيما أمره، ويتنحى عما نهاه، دعوته في ذلك دعوة الإمام الغزالي: (اللهم ارزقنا إيماناً كإيمان العجائز) الذين يتعاملون مع الأمر الرباني بما تعامل معه الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم الصحابي أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي لُقب (بالصديق) بسبب تصديقه المُباشر لقصة الإسراء والمعراج فقال رضي الله عنه في الحديث: (لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ إني لَأُصَدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك، أُصَدِّقُه بخبرِ السماءِ في غُدُوِّه أو رَوْحِه) صححه الألباني.

وواصل الصحابة رضوان الله عليهم الاستجابة الفورية في قصة تحريم الخمر التي نزلت في سورة المائدة (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (91)، فقالوا رضي الله عنهم مباشرة كما ورد في الحديث: "انتهينا" رواه أبو داود، وتركوا شرب الخمر من تلك اللحظة التي غيّرت وجه التاريخ منذ ذلك الحين حتى الآن.

والقصة هنا تكمن في الامتثال المباشر لأوامر الله سبحانه وتعالى وترك نواهيه، وبدون طرح أسئلة: لماذا نفعل؟ أو لماذا نترك؟ خصوصاً أن الله سبحانه وتعالى قد بيّن لنا في كثير من الآيات في القرآن والأحاديث النبوية -التي ينطق فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى كما جاء في سورة النجم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) (3-4)- بعض علل أوامره، وشيء من حكمة عباداته الواجبة والمُستحبة.

ولو استعرضنا بعض هذه "العلل التعبدية" في أركان الإسلام سنعرف أن علة قول الشهادتين -اعتقاداً بالقلب وقولاً باللسان- هي الدخول في الإسلام.

وفيما يتعلق بعلة الأمر بالصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام جاءت في قوله تعالى في سورة طه (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (14) فبيّن سبحانه وتعالى أن إقامة الصلاة إحياءً لذكره جل وعلا في الأرض، والذي تترتب عليه الراحة النفسية والطمأنينة الروحية كما قال الله في سورة الرعد (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (28) وبيّن أيضاً سبحانه وتعالى علة ترك عبادته فقال في سورة طه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) (124).

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم علة الأمر بالصلاة حينما قال للصحابي بلال رضي الله عنه (قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ) رواه أبو داود.

وفيما يتعلق بعلة الأمر بالزكاة الركن الثالث فقد بيّنها الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (103) فالصدقة تُطهر المال وتُزكي صاحبه.

وفيما يتعلق بعلة الأمر بالصيام الركن الرابع فقد بينها الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183) فالصيام من أجل تحقيق التقوى التي تجسدت في هذا الحديث (قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به) رواه مسلم.

وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم علة أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالحج في سورة آل عمران (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ) (97)، فقال عليه الصلاة والسلام (مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ) رواه البخاري.

ومصداقاً لقوله تعالى في سورة الأعراف (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (54) فإنه سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا وعلينا التزام أوامره بعلة توضيحية وبدونها، تحقيقاً لأمره في سورة النساء (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (59).

إن زرع نية الالتزام بالحدود التي رسمها الله لنا في القرآن الكريم والسنة النبوية التي قالها في مطلع سورة الطلاق (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) في قلوبنا يمنحنا الراحة، ويهبنا الطمأنينة.

فنقف أمام يدي الله سبحانه وتعالى وكلنا خضوع وإذعان، وانسجام تام مع تنفيذ أوامره، واتساق مكتمل مع ترك محاذيره، يتجاذبنا الخوف والرجاء، ويغمرنا حمده على نعمائه، ويحيينا طمعنا فيما عنده سبحانه وتعالى.

فعلاقتنا به سبحانه وتعالى لا تُبنى على تبادل المنافع، ولا تُبنى على طرح الأسئلة وإيجاد الإجابات، فالمحجة البيضاء التي تركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم واضحة، والنصوص المقدسة في القرآن الكريم والسنة النبوية واضحة وبيّنة، وعلينا فقط أن نمضي نحو الله بلا خطوة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة الأنعام (79).

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • مدونات الجزيرة
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

واليائس إذا سلك سبيل الأنبياء!

كاتبني أحدُ المكلومين: "ألا ترى أنّك تكتب عن الثبات وتباشير النصر، بينما لا يجد أحدنا …