أول ما تعرفت على المفكر مالك بن نبي كان عبر مقولات مشهورة يتداولها بعض المثقفين أمثال د.جاسم سلطان وغيره، ولم أكن قد قرأت له شيئاً متكاملاً أو أصدرت حكماً عليه –ولو شخصيًا– حتى قرأت له كتاب "شروط النهضة" فوجدتني كنت عن هذا من الغافلين، وكلما سنحت لي الفرصة أن أقرأ من تراثه فإنني –بإذن الله– لن آلو جهدا.
وشاء الله أن أقرأ له كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" تحضيرًا لمناقشته مع ثلة من الشباب والفتيات أصحاب عزيمة على القراءة والثقافة، مما سمح لي أن اقترب أكثر من فكر هذا الرجل رحمه الله رحمة واسعة.
مع الكتاب
الكتاب –في طبعته السادسة عشرة من دار الفكر– يقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، قسمه –رحمه الله– إلى 17 فصلا، في كل من الفصول تناول جملة من الأفكار المهمة وعالجها بفلسفية مميزة.
ابتدأ حديثه حول الفرق الجوهري بين الثقافتين: الغربية بما تحمله من اهتمام في المادة وما حولها، وثقافتنا واهتمامها بالفكرة والكلمة والمعنى وما وراءها من أسرار، وكيف أن هذا الفرق الجوهري قد يدفع باتجاه قدرتنا المستقبلية على نحت حلول مشاكلنا دون الوقوف كثيرًا على معضلتنا المادية، مقارنة بالثقافة الغربية التي استطاعت أن تجيب عن مختلف الأسئلة المادية دون أن تحل مشكلتها حول الغاية والمعنى للحياة وتفاصيلها، مشيرًا إلى أهمية تطوير قدرتنا على فهم مشاكلنا بالتفصيل في ضوء استيعابنا لقوانين حركة المجتمعات.
كما يتناول –رحمه الله– فكرة الحضارة ومكوناتها ومراحلها، فهو يرى أن أية حضارة تتكون من عوالم ثلاث:
- عالم الأفكار (بما يحويه من أفكار ومبادئ ومعتقدات ومشاعر).
- عالم الأشخاص (والعلاقات التي تربطهم والضوابط التي تتحكم بهم).
- وعالم الأشياء (بما تحويه من موارد أو منتجات يحتك بها ويستخدمها أو ينتجها).
مؤكدًا على ضرورة التوازن بين هذه العوالم واعتماد النهوض في أية حضارة على مدى تطور عالم الأفكار فيها؛ فالحضارة متحركة وغير ثابتة، وتتغير تبعًا للمراحل التي تمر بها:
- مرحلة ما قبل التحضر (في ظل وجود مقدرات لم تستثمر بالشكل الأمثل لفقر عالم الأفكار).
- تليها مرحلة التحضر (والتي من خلالها يتطور عالم الأفكار فتستثمر الواقع وتحقق الطموحات).
- ويليها ما بعد التحضر (مرحلة استنفاد المقدرات وتتناقص الأفكار).
إلا أن كل حضارة –كما يقول– تحتاج إلى فكرة مركزية وطاقة دافعة للأفراد مضبوطة بشروطها؛ فالفكرة المركزية في حضارتنا الدين والطاقة الدافعة للمؤمنين بها هي الحاجة للغذاء والتملك والتكاثر، وكلها –في الحضارة الإسلامية– مضبوطة بأحكام الشرع وفلسفة المجتمع؛ لأن المجتمعات المتحضرة تقنن طاقات أفرادها الدافعة.
كما تناول بن نبي –عليه رحمة الله– أنواع الأفكار التي تسود المجتمعات، وقسمها إلى:
- الأفكار المطبوعة (ويقصد بها المخزن الثقافي للمجتمع ويتناقله الأفراد -جيلًا بعد جيل– بالوراثة من خلال العادات والتقاليد وأنظمة التعليم الأولية).
- والأفكار الموضوعة (ويقصد بها ما يستورد عادة من الأفكار والثقافات من الآخرين –أي الغرب– أو ما نتوصل إليه عبر التجربة والعمل، وينتقل من الجيل الحالي إلى المستقبلي).
كما أشار إلى أنه لا يشترط نجاح أية فكرة "موضوعة" أو نموذج مستورد من الخارج –كانت ناجحة عند أصحابها- فقد تختلف البيئات أو الأزمان أو المعطيات، كما لا يمكن استدعاء فكرة "مطبوعة" دون النظر إلى اختلاف الزمان ومعطيات البيئة المستجدة ومواءمة روح العصر.
كما أشار –رحمه الله– إلى أن الفقر في عالم الأفكار أسوأ من الفقر في عالم الأشياء؛ فالأفكار هي التي تصنع الأشياء وتوفرها وتضبطها وتتعامل معها، بينما الأشياء لا تصنع الأفكار الصحيحة، مع ضرورة إيجاد حالة من التوازن بين الأفكار والأشخاص والأشياء دون أن يتغوّل أحدها على الآخر؛ كي لا يتحول الأشخاص أو الأشياء –حين تجسّد الأفكار فيها– إلى أوثان تعبد من دون الله تعالى، وهذا أحد أبرز أدوار المثقفين في المجتمعات: ضبط تجسد الأفكار في الأشخاص أو الأشياء وتوازنها مع بعضها البعض.
كما تناول أيضًا أصالة الفكرة في أي مجتمع وانبثاقها عن إيمانه ودينه وقيمه ومدى قدرتها على الفاعلية بين الناس؛ فأصالة الفكرة ومدى صحتها لا يعطيها القوة في التأثير إن لم تكن فاعلة ومحركة، مشيرًا إلى أن الحضارة الغربية اعتمدت في صعودها على "العلم" كفكرة فاعلة بغض النظر عن مدى صحتها أو أصالتها، في حين أن الأمة الإسلامية –في أول الأمر– اعتمدت على أصالة فكرتها المقدسة وما تحتويه من قيم وأفكار فاعلة ونشطة ومغيرة كانت سببًا في انتصارها، فلما انتكست عن هذه الأفكار تولّدت لديها أفكار معطّلة وخاملة، كما تحدث عن أن فاعلية الأفكار تحكمها مدى قدرتها على النجاح العملي وتحقيق المكاسب وليس فقط قدرتها الفلسفية على الإقناع.
مشيرًا إلى أن الحروب –وهي من أقسى الفواعل البشرية– هي استمرار للسياسة –فكرًا وسلوكًا– وأن متطلبات القيادة في الحضارة الإسلامية هي النزاهة والكفاءة، والسياسة لدينا –معاشر المسلمين- أخلاقية وجمالية وعلمية.
كما تناول مالك بن نبي معضلة ازدواجية اللغة بين أبناء الأمة وتأثيرها وخلطها للأفكار –الصالحة والطالحة– بسبب البيئة الاستعمارية التي عاشتها الأمة وتأثيرها على بنيتها الثقافية والفكرية العميقة.
ثم ختم –رحمه الله– نقاشه الماتع بالحديث عن الأفكار الميتة (وهي المتولدة في إرثنا الاجتماعي والتي تسببت بقابليتها للاستعمار)، وكذلك الأفكار المميتة (التي تستعار من الغرب ومحاولة استنباتها في أراضينا عبر الغزو الفكري فتكون غطاء لغزوه المادي).