إن المتابع لتسارع الأحداث الأخيرة وطبيعة دوران عجلتها يدرك مدى ثقلها على النفس وتأثيرها في اتزان مشاعره وضبط عواطفه وانفعالاته، وانعكاس ذلك على تصرفاته وعموم قراراته (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية)، مما يزيد من حالة الارتباك العام.
فما بين جائحة كورونا وعواقبها الاقتصادية المؤثرة على إغلاق العديد من الوظائف وفقدانها أو تناقص أجورها إلى النصف أو أكثر، إلى تأثيراتها الاجتماعية في زيادة حالات الوفيات وخاصة بين الشباب بسبب ضعف المنظومة الصحية، وفي المقابل تفاقم حالات اليأس والإحباط -وخاصة بين الشباب- من وجود أي إصلاحات سياسية جادة تقودها الأنظمة الرسمية لسحب فتيل أي احتقان شعبي متوقع بسبب تردي الأوضاع، وفوق ذلك كله تسابق نحو اتفاقيات الخزي والعار مع العدو الصهيوني وتطبيع العلاقات معه، بغض النظر عن سوء أفعاله على الأرض، ومحاولاته المستمرة بتفريغ المسجد الأقصى من مرابطيه.
هذا الكم الهائل من الأحداث يضع منظومة الصحة النفسية في العالم على المحك، ويزيد من الاضطرابات النفسية بشكل مضطرد، ويجعل الشباب -وهم الفئة الأكبر في مجتمعاتنا العربية- ساخطين عليه ويائسين من مستقبله، بل ويضع العالم أمام سؤال كبير حول مدى قدرته على معالجة أفراده والتعاطي مع صحتهم دون زيادة في الكلف ترهق الاقتصاد المرهق أصلا، والتفكير الجاد بمنظومة تربوية وقيمية تحصن الإنسان -فردا وجماعة- من اليأس القاتل...
من جملة ما يحققه التدبر الرمضاني في آيات القرآن الكريم هو محاولة الاطلاع عن كثب لمعالم المنهجية القرآنية في إرساء دعائم الاستقرار النفسي، بما يعود بالنفع على الفرد وبنية المجتمع وتماسك الأمة، ومنها...
1- إجابته عما يسمى "الأسئلة الوجودية الكبرى"، من مثل "من أنا؟؟ من أوجدني؟؟ ولماذا؟؟ وإلى أين المصير؟؟ وماذا بعد الموت؟؟ وما علاقتي بالخير والشر؟؟" وغيرها من الأسئلة التي حيّرت الفلاسفة والوجوديين، ودفعت بهم إلى الحديث عن عبثية الخلق وعدم حكمته أو عدالته، الأمر الذي زاد من ارتباكهم، والمتدبر في قصة آدم المبثوثة في القرآن يدرك ذلك تماما، وصدق الله حين قال {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟؟ فتعالى الله الملك الحق}.
2- تأكيداته المتكرر على وضوح المعرفة بالله وقدرته وقدره العلي العظيم، والمتمثل في الحديث عن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وعن ضرورة التفكر في ملكوته لنقدره قدره، وما كانت صرخة نبي الله نوح في قومه إلا لقلة توقيرهم لجلاله فقال {ما لكم لا ترجون لله وقارا؟؟ وقد خلقكم أطوارا؟؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا؟؟
3- حديثه عن أن سر طغيان الإنسان على أخيه الإنسان ومختلف الخلق هو شعوره بالغنى الذاتي، وعالج ذلك بتذكيره بعودته إلى الله ليحاسبه على الفتيل والنقير والقطمير، فقال جل شأنه {كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى، إن إلى ربك الرجعى}.
4- تأكيده على أن عطاء الله أو تقديره للرزق إنما هو جزء من البلاء الذي سيظهر عبودية المرء من طغيانه، وليس مرتبطا بالإكرام أو الإهانة، لتستقر ذاته على هذا {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول: ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول: ربي أهانن، كلا...}.
5- ضبطه أمنيات الإنسان ورغباته دون التعجل، فهو لا يدري أيهم خيرا: أن يحقق الله له أمانيه أم لا، وصدق الحق بقوله: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا}.
6- إشارته إلى أن التفاضل في الآخرة يشابه التفاضل في الدنيا من حيث تراتبيه الجزاء من جنس الاجتهاد، منعا للركون والدعة بدعوى حسن الظن بالله، وصدق تعالى حينما قال: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}.
7- حديثه عن أن حياة الإنسان قائمة على الاضطراب وسعيه للاستقرار، وكيف أن هذا الاضطراب إذا زاد عن حده أصبح سلبا عائقا حقيقياً عن الحياة، في الشر والخير على حد سواء، ولن يضبط مسار هذا الاضطراب ويهدئه إلى الصلة بالله، {إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا، وإذا مسّه الخير من عا، إلا المصلين}.
8- تحذيره من الانغماس بالنعمة على حساب شكر المنعم بها وحسن عبادته، فإن ذلك مظنة الخسران في الدنيا والآخرة، {إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد}، {ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر}.
9- انتقاده لنفعية الإنسان ونسيانه لربه، فهو يُقبل على ربه عند مساسه "بالضر" وينساه حين رفعه عنه، لذا فهو مأمور بالعبادة على كل حال، {وإذا مسّ الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}.
10- ربطه بين تحقيق الاطمئنان القلبي والإيمان وذكر الله {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، الا بذكر الله تطمئن القلوب}.
هذه بعض المعالم المنهجية، وللمتدبر الحريص أن يفتح له أكثر وأعمق من ذلك، فهذا كتاب الله تعالى {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}.